للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُقْصَانَهَا بِالنَّوَافِلِ ثُمَّ يُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ فِي صَرْفِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ.

وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي مَحِلُّهَا الْقَلْبُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهَا فَيَتَأَمَّلْ مَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ فَيَمْتَحِنُ قَلْبَهُ وَيَسْتَشْهِدُ بِالْعَلَامَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ادِّعَاءِ النَّفْسِ التَّنَزُّهَ عَنْهَا ثُمَّ يُبَاشِرُ عِلَاجَهُ بِمَا مَرَّ وَأَمَّا فِي الْمُنْجِيَاتِ مِنْ نَحْوِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَلْيَتَفَكَّرْ كُلَّ يَوْمٍ فِي قَلْبِهِ وَمَا الَّذِي يَفُوزُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا افْتَقَرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا عُلُومٌ وَأَنَّ الْعُلُومَ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا الْأَفْكَارُ وَأَنْفَعُ الْأُمُورِ فِي هَذَا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَيُرَدِّدُ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّفَكُّرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيَتَوَقَّفُ فِي التَّأَمُّلِ وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَسْرَارًا لَا تُحْصَى وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ بَحْرٌ مِنْ بِحَارِ الْحِكْمَةِ وَلَوْ تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهِ نَظَرُهُ طُولَ عُمْرِهِ فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ التَّفَكُّرِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ مُسْتَغْرِقَ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأَفْكَارِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ فَهَذَا التَّفَكُّرُ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ غَايَةَ الْمَطْلَبِ بَلْ مَحْجُوبٌ عَنْ مَطْلَبِ الصِّدِّيقِينَ مِنْ التَّفَكُّرِ فِي جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ بِحَيْثُ يَفْنَى عَنْ نَفْسِهِ وَالْفَنَاءُ فِي الْوَاحِدِ الْحَقِّ غَايَةُ الْمَقَاصِدِ وَعِمَارَةُ الْبَاطِنِ وَبِالْجُمْلَةِ تَعْمِيرُ الظَّاهِرِ بِالْعِبَادَاتِ لَا يُثْمِرُ إلَّا الْجَنَّةَ دُونَ الْمُجَالَسَةِ وَتَعْمِيرُ الْبَاطِنِ بِالْمُنْجِيَاتِ يُثْمِرُ الِاسْتِعْدَادَ لِلِّقَاءِ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ.

(وَ) التَّفَكُّرُ (فِي خَلْقِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ) أَيْ فِي الذَّوَاتِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْعَالَمِ مَوْجُودٌ مِثَالُهُ فِي الْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ

وَتَحْسِبُ أَنَّك جِرْمٌ صَغِيرٌ ... وَفِيك انْطَوَى الْعَالَمُ الْأَكْبَرُ

وَلِذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ وَقِيلَ وَلْنَضْرِبْ لَك مِثَالًا مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ لِتَقِيسَ سَائِرَهَا عَلَيْك وَهِيَ أَنَّ نَفْسَك مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ أَخْرَجَهَا تَعَالَى مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ وَلِإِخْرَاجِهَا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ إلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَلْقَى الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَقَادَهُمَا بِسِلْسِلَةِ الشَّهْوَةِ إلَى الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ الْخَلْقُ مِنْ النُّطْفَةِ عَلَقَةً بَيْضَاءَ مُشْرِقَةً ثُمَّ جَعَلَهَا مُضْغَةً ثُمَّ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَائِهَا قَسَّمَهَا إلَى الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْآثَارِ وَاللَّحْمِ ثُمَّ قَدَّرَ مِنْهَا الرَّأْسَ وَشَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْأَنْفَ وَالْفَمَ ثُمَّ مَدَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَقَسَّمَ رُءُوسَهُمَا بِالْأَنَامِلِ وَوَضَعَ فِيهَا الْأَظْفَارَ ثُمَّ الْبَاطِنَةَ مِنْ الْقَلْبِ وَالْمَعِدَةَ وَالطِّحَالَ وَالرِّئَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالرَّحِمَ وَالْأَمْعَاءَ كُلٌّ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى تَفْصِيلِهَا لَعَيِيَتْ الْقُوَى وَتَحَيَّرَتْ النُّهَى مَثَلًا كَيْفِيَّةُ إبْصَارِ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالذَّوْقِ لَدَهَشْت مِنْ عَجَائِبِهَا الْعُقُولُ فَانْظُرْ إلَى الْحَدَقَةِ وَهِيَ مِقْدَارُ عَدَسَةٍ كَيْفَ تُحِيطُ بِنِصْفِ السَّمَاءِ دَفْعَةً مَعَ عِظَمِهَا وَانْظُرْ إلَى السَّمْعِ كَيْفَ يُدْرِكُ الْأَصْوَاتَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَثَلًا مَجْمُوعُ عِظَامِ الْبَدَنِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا سِوَى صِغَارِهَا وَلَوْ تَكَلَّمْنَا فِي كُلٍّ مِنْهَا لَمْ نَقْضِ مِنْ حِكْمَةِ كُلٍّ مِنْهَا عُشْرَ أَعْشَارِهَا فَضْلًا عَنْ سَائِرِهَا عَلَى نَظَرِ أَهْلِ الْبَصَائِرِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى جَلَالَةِ خَلْقِهَا فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَأَظْهَرَ بُرْهَانَهُ فَهَذِهِ عَجَائِبُ بَدَنِك الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَأَنْتَ غَافِلٌ عَنْهَا مَشْغُولٌ بِبَطْنِك وَفَرْجِك لَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِك إلَّا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ وَتَشْتَهِيَ فَتُجَامِعَ وَتَغْضَبَ فَتُقَاتِلَ وَيُشَارِكُك فِي ذَلِكَ الْبَهَائِمُ

وَإِنَّمَا خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ إذَا بِهَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ (وَالْآفَاقِ) أَيْ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا لَا يَعْرِفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَ {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: ٣٦]- وَفِي الْجَامِعِ «تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ» كَالتَّفَكُّرِ فِي دَوَرَانِ الْفُلْكِ وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>