للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ عِنْدَ نُبُوَّتِهِ جَمَعَ الْمُخَالَطَةَ وَالْإِقْبَالَ إلَيْهِ تَعَالَى بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ وَلَنْ يَتَيَسَّرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ إلَّا بِالِانْتِهَاءِ إلَى دَرَجَةِ أَكْمَلِ الْعَارِفِينَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَا أُكَلِّمُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنِّي أُكَلِّمُهُمْ فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ بِدَوَامِ الذِّكْرِ الْأُنْسُ بِاَللَّهِ وَبِدَوَامِ الْفِكْرِ التَّحَقُّقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّجَرُّدُ لَهُ أَفْضَلُ الثَّانِي التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ عَنْ الْمَعَاصِي الْحَاصِلَةِ بِالْخُلْطَةِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالرِّيَاءِ الثَّالِثُ الْخَلَاصُ مِنْ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ وَصِيَانَةُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنْ الْخَوْضِ فِيهَا الرَّابِعُ الْخَلَاصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مِنْ الْغِيبَةِ لَك وَسُوءِ الظَّنِّ بِك وَالتُّهْمَةِ عَلَيْك الْخَامِسُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُ النَّاسِ عَنْك وَيَنْقَطِعَ طَمَعُك عَنْهُمْ السَّادِسُ الْخَلَاصُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الثُّقَلَاءِ وَالْحَمْقَى وَمُقَاسَاةِ أَخْلَاقِهِمْ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الثَّقِيلِ هِيَ الْعَمَى الْأَصْغَرُ

وَأَمَّا آفَاتُهَا فَسَبْعٌ الْأَوَّلُ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ لَا يَتَحَصَّلَانِ إلَّا بِالْخُلْطَةِ وَالْعُزْلَةُ قَبْلَ تَعَلُّمِ الْفُرُوضِ عِصْيَانٌ قَالَ النَّخَعِيُّ تَفَقَّهْ ثُمَّ اعْتَزِلْ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَاهَ وَاسْتِكْثَارَ الْأَصْحَابِ وَالْأَتْبَاعِ وَالتَّقَدُّمَ عَلَى الْأَقْرَانِ وَتَقَرُّبَ السُّلْطَانِ وَتَوَلِّيَ الْأَعْمَالِ وَاجْتِلَابَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا هَلَاكُ الدِّينِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ حَيْثُ قَالَ دَعْ الرَّاغِبِينَ فِي صُحْبَتِك وَالتَّعَلُّمِ مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُمْ مَالٌ وَلَا جَمَالٌ، وَإِخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السِّرِّ إذَا لَقُوك تَمَلَّقُوك وَإِذَا غِبْت عَنْهُمْ سَلَقُوك وَمَنْ أَتَاك مِنْهُمْ كَانَ عَلَيْك رَقِيبًا وَإِذَا خَرَجَ كَانَ عَلَيْك خَطِيبًا، أَهْلُ نِفَاقٍ وَنَمِيمَةٍ وَغِلٍّ وَخَدِيعَةٍ فَلَا تَغْتَرَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ فَمَا غَرَضُهُمْ الْعِلْمُ بَلْ الْجَاهُ وَالْمَالُ وَأَنْ يَتَّخِذُوك سُلَّمًا إلَى أَوْطَارِهِمْ وَحِمَارًا فِي حَاجَاتِهِمْ، إنْ قَصَّرْت فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ أَعْدَائِك ثُمَّ يَعُدُّونَ تَرَدُّدَهُمْ دَالًّا عَلَيْك وَيَرَوْنَهُ حَقًّا وَاجِبًا لِدِيكِ وَيَعْرِضُونَ عَلَيْك أَنْ تَبْذُلَ عِرْضَك وَجَاهَك وَدِينَك لَهُمْ فَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ وَتَنْصُرَ غَرِيبَهُمْ وَخَادِمَهُمْ وَوَلِيَّهُمْ وَتَنْتَهِضَ لَهُمْ سَفِيهًا وَقَدْ كُنْت فَقِيهًا وَتَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا بَعْد أَنْ كُنْت مَتْبُوعًا رَئِيسًا وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ رَحِمَ اللَّهُ قَائِلَهُ فَإِنَّ الْمُدَرِّسِينَ فِي رِقٍّ دَائِمٍ وَتَحْتَ حَقٍّ لَازِمٍ وَمِنَّةٍ ثَقِيلَةٍ مِمَّنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ يُهْدِي تُحْفَةً إلَيْهِ فَيَرَى حَقَّهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ ثُمَّ الْمُدَرِّسُ الْمِسْكِينُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَيَبْذُلُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ فِي أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ الذَّمِيمَةِ وَمَعَ ذَلِكَ نَسَبُوهُ إلَى الْحُمْقِ وَقِلَّةِ التَّمْيِيزِ وَالْقُصُورِ عَنْ دَرْكِ مَقَادِيرِ الْفَضْلِ وَسَلَقَهُ السُّفَهَاءُ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ وَثَارُوا عَلَيْهِ ثَوْرَانِ الْأَسَاوِدِ وَالْآسَادِ الثَّانِي النَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ فَإِنَّ الْخُلْطَةَ لِلِاكْتِسَابِ لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ لِأَجْلِ النَّوَافِلِ وَإِنْ كَانَتْ الْعُزْلَةُ لِأَجْلِ التَّحَقُّقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُومِ الشَّرْعِ وَالْإِقْبَالِ بِكُنْهِ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّجَرُّدِ بِهِ لِلذِّكْرِ أَفْضَلَ وَأَيْضًا الْقِيَامُ بِحَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ بِنَوَافِل الصَّلَوَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الْقَلْبِيَّةُ مِنْ الْمَعَارِفِ لَا مُعَادِلَ لَهَا أَصْلًا وَقَطْعًا الثَّالِثُ التَّأْدِيبُ وَالتَّأَدُّبُ بِكَسْرِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الشَّهَوَاتِ بِتَحَمُّلِ أَذَى النَّاسِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ لِمَنْ يَتَهَذَّبُ وَالتَّأْدِيبُ كَحَالِ شَيْخِ الْمُتَصَوِّفَةِ مَعَهُمْ إذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ كَحَالِ الْمُعَلِّمِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ الرَّابِعُ الِاسْتِئْنَاسُ وَالْإِينَاسُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَمَجَالِسِ الْغِيبَةِ وَاللَّهْوِ وَمُبَاحًا كَالْأُنْسِ بِالْمَشَايِخِ وَمُسْتَحَبًّا كَتَرْوِيحِ الْقُلُوبِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ إذَا كَرِهَتْ عَمِيَتْ وَمَهْمَا كَانَ فِي الْوَحْدَةِ وَحْشَةٌ وَفِي الْمَجَالِسِ تَرْوِيحٌ فَهِيَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُبَّمَا تَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ وَفِي بَعْضِ الْحَالَاتِ دُونَ الْأُخْرَى الْخَامِسُ فِي نَيْلِ ثَوَابٍ كَحُضُورِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى السَّادِسُ التَّوَاضُعُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْوَحْدَةِ السَّابِعُ التَّجَارِبُ إذْ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ غَيْرُ كَافٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا انْتَهَى فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَالْعُزْلَةُ مِنْ أَمَارَاتِ الْوَصْلَةِ وَلَا بُدَّ لِلْمَرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ مِنْ الْعُزْلَةِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ ثُمَّ فِي نِهَايَتِهِ مِنْ الْخَلْوَةِ لِتَحَقُّقِهِ بِأُنْسِهِ وَمِنْ حَقِّ الْعَبْدِ إذَا آثَرَ الْعُزْلَةَ أَنْ يَقْصِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنْ الْخَلْقِ سَلَامَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ وَلَا يَقْصِدَ سَلَامَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ وَعَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ قِيلَ لَهُ أَنْتَ رَاهِبٌ فَقَالَ لَا أَنَا حَارِسُ كَلْبٍ إنَّ نَفْسِي كَلْبٌ يَعْقِرُ الْخَلْقَ أَخْرَجْتُهَا مِنْ بَيْنِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>