(أَوْ لِنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ دَوَاعِي التَّرْكِ مِنْ وُجُودِ النَّافِي وَانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ (وَلَوْ تَتَبَّعْت كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ) اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا قَوْلًا أَوْ خُلُقًا (مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ) إذْ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَادَةِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا مَرَّ (وَجَدْته مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ) جَانِبِ (الشَّارِعِ) إلَهًا أَوْ رَسُولًا بَلْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا (إشَارَةً) أَيْ طَرِيقَ إشَارَةِ النَّصِّ (أَوْ دَلَالَةً) بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ مَعْنًى ثَبَتَ بِالنَّظْمِ لَكِنَّ مَنْ غَيَّرَ سُوقَ النَّظْمِ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: ٨] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يُسَقْ لِهَذَا بَلْ سَوْقُهُ لِإِيجَابِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَا ثَبَتَ مِنْ النَّظْمِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] فِي حَقِّ حُرْمَةِ الضَّرْبِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَذَى، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يَذْكُرْ الْعِبَارَةَ وَالِاقْتِضَاءَ مَعَ أَنَّهُمَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا: الْعِبَارَةُ لِكَوْنِهَا مَعْنًى مَقْصُودًا مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ لَا يُتَوَهَّمُ بِدْعِيَّتُهُ لِوُضُوحِهِ
وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِاحْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَيْهِ مِنْ اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَلَعَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ التَّرَاخِي لَكِنْ فِيهِ تَأَمَّلْ قِيلَ: وَمِنْ قَبِيلِ مَا أُذِنَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ مَا اُسْتُحْدِثَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ مِنْهَا ضَرَرٌ فَبِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالسُّنَّةِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً أَيْ أَبْدَعَ وَأَحْدَثَ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» فَيَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ كُلُّ بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ.
وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَنِّ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَذَا وِزْرُ السَّيِّئَةِ
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَدْبَارَ الْمَكْتُوبَاتِ فَكَثِيرٌ فِيهَا أَقَاوِيلُ الْفُقَهَاءِ فَعَنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ لِلْعَادَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَنْعُ.
وَعَنْ فَتَاوَى بُرْهَانِ الدِّينِ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ جَهْرًا وَمُخَافَتَةً.
وَعَنْ فَتَاوَى السَّعْدِيِّ لَا يُكْرَهُ.
وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَالْقُنْيَةِ وَالْأَشْبَاهِ الِاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَمِنْ الْأَوْقَاتِ الْمَأْثُورَةِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ إذْ وَرَدَ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْقَابَ الصَّلَوَاتِ عَنْ سَيِّدِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ.
وَفِي التتارخانية أَيْضًا وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِأَجْلِ الْمُهِمَّاتِ مُخَافَتَةً وَجَهْرًا مَعَ الْجَمْعِ مَكْرُوهَةٌ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي بَدِيعِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى.
وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَفِي هَامِشِ الْوَسِيلَةِ وَفِي كِتَابِ الثَّوَابِ لِأَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ: إذَا أَرَدْت حَاجَةً فَاقْرَأْ الْفَاتِحَةَ حَتَّى تَخْتِمَهَا تُقْضَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحُصُولِ الْمُهِمَّاتِ كَمَا فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي انْتَهَى. وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْجَوَازِ لِكَثْرَةِ قَائِلِهِ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا لَا يَكُونُ لَهَا إذْنُ إشَارَةٍ وَدَلَالَةٍ وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ سُورَةُ تَعْلِيمِ طَرِيقِ الدُّعَاءِ وَسُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَسُورَةٌ نَزَلَتْ لِبَيَانِ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ مِنْ الدُّعَاءِ فَأَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ إنَّمَا يَلِيقُ وَيَجْرِي فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ فَلَا كَلَامَ فِي أَصْلِ قِرَاءَتِهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي جَهْرِهَا سِيَّمَا مَعَ الْجَمْعِ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ
وَأَمَّا الْجَمْعُ مَعَ الْمُخَافَتَةِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ قَوْلُ الْإِمَامِ بَعْدَ سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الْفَاتِحَةُ يَعْنِي يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ: اقْرَءُوا الْفَاتِحَةَ فَيَقْرَءُونَ مَعَ الْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَوْ فِي أَعْقَابِ مُطْلَقِ الدَّعَوَاتِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَوْلَوِيَّةُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْإِمَامِ الدُّعَاءُ وَوَظِيفَةَ الْمُؤْتَمِّ وَالْجَمَاعَةِ التَّأْمِينُ لَكِنْ فِي رِسَالَةِ الْمَوْلَى عَالِمٍ مُحَمَّدٍ نَدْبِيَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَنْ نَصِّ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِ لَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ إنْ صَحَّ أَنَّ الْفَضْلَ وَرَدَ فِي حَقِّ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَاللَّائِقُ أَنْ يَقْرَأَ كُلٌّ عَلَى انْفِرَادِهِ