للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عبادة ربه وإنما هو ترك النطق بالشهادتين لخوف مسبة لا للعناد للإسلام، أو ترك بعض الواجبات ومع ذلك قلبه مشحون بتصديق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومثل هذا ناج في الآخرة على مقتضى ديننا فلا يليق بالحكمة، ولا بمحاسن الشريعة الغرّاء، ولا بقواعد الأثمة من أهل الكلام أن يكون هو وآزر- عم إبراهيم- في مرتبة واحدة فإن أبا طالب رباه صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وآواه كبيرا، ونصّره وعزره، ووقره، وذب عنه، ومدحه، ووصى باتباعه. وأما ما

روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا.

فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه، وأما

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» «١»

فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلّى الله عليه وسلّم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما

روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال:

«والله إني لأستغفرن لأبي- أي لعمي- كما استغفر إبراهيم لأبيه» . فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» «٢»

فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفرن لأبي»

ولم يقل: أمرت أن لا أستغفر له بل

قال: «لمن مات مشركا»

جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير الدعاء والتضرع حَلِيمٌ (١١٤) أي صبور على المحنة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك


(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة ٩، وأحمد في (م ١/ ص ١٣١) . [.....]
(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣: ٢٨٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>