قال القشيريُّ (١): وسمعتُ الأستاذ أبا علي يقولُ في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مبايعته فرسًا من أعرابي، وأنه استقاله، فأقاله، فقال له الأعرابيُّ: عمرك الله؛ فمن أنت؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «امْرُؤٌ من قُريش». فقال له بعضُ الحاضرين: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك! قال أبو علي: فإنما قال: امرؤٌ من قريش غيرةً، وإلا كان واجبًا عليه التعرُّف إلى كل أحدٍ أنه من هو، ثُمَّ إن الله أجرى على لسان ذلك الصحابي تعريف الأعرابي.
فيقال: من العجب أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غار أن يذكر: أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيِّ الذي لا يعرفه، وهو كان دائمًا يذكرُ ذلك لأعدائه من الكفَّار سرًّا وجهرًا، ليلًا ونهارًا، ولا يغارُ من ذلك، فكيف يُظنُّ به: أنه غار أن يعرّف ذلك المسكين: أنه رسول الله؟ هذا من خيالات القوم، وتُرَّهاتِهِم، وإنما سترَ عنه ذلك الوقت معرفته لحكمةٍ لطيفةٍ، فهمها الصَّحابيُّ، وصرَّح بها للأعرابي، وهي: أن هذا الأعرابي كان جافيًا [١١٧ ب] جلفًا، فأحبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفه جفاءه وجلافته بطريق لا يُبكته بها، ويعرف من نفسه أنه أهلٌ لذلك، فكأنه يقول بلسان الحال: كفاك جفاءً أن تجهلني حتى تسألني: من أنا، فلما فهم الصحابي ذلك بلطف إدراكه، ودقَّة فهمه فبادأه به، وقال: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك!
ثم ذكر القُشيريُّ من كلام الشِّبلي أنه قال: غيْرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله، وهذا كلامٌ حسن.