فقَالَ: أيها الملك، لا تشعر قلبك الجزع عَلَى ما فات، فيغفل ذهنك عَنِ الاستعداد لما يأتي، وناضل عوارض الحزن بالأنفة عَنْ مضاهاة أفعال أهل وهي العقول، فإن العزاء لحزماء الرجال، والجزع لربات الحجال، ولو كان الجزع يردّ فائتاً، أو يحيي تالفاً، لكان فعلاً دنيئاً، فكيف به وهو مجانب لأخلاق ذوي الألباب! فارغب بنفسك أيها الملك عما يتهافت فيه الأرذلون، وصن قدرك عما يركبه المخسوسون، وكن عَلَى ثقةٍ أن طمعك فيما استبدت به الأيام، ضلة كأحلام النيام: المقاول والأقيال: دون الملوك العظماء، ووقصه: كسره، ويؤسونه: يعزونه، وأصله، أن يُقَال: لك أسوة بفلان وفلان، والجلل: الصغير، والجلل: الكبير، وهو من الأضداد، والبدّة: النصيب، واستبد به أي جعله نصيبه، والشوى: الهين اليسير، والشوى أيضاً: رذال المال، والمناضلة: المراماة.
والمضاهاة: المشاكلة، والتهافت: التتابع.
وقرأنا عَلَى أَبِي بَكْرِ بن دريد:
حبسن بين رملة وقف ... وبين نخل هجر الملتف
ثمت أصدرن بغير كفّ
هذه إبل خرجت للميرة فرجعت بغير كفٍّ من طعام
[خطبة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه]
وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بن الأنبارى، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن عبيد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزنادي، قَالَ: يُقَال: إن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، تكلم بهذا الكلام فِي خطبته: ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول! وإنما الشيء من أصله، فقد مضت قبلنا أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرعٍ بعد أصله! إنما الناس في الدنيا أغراضٌ تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نهبٌ للمصائب، مع كل جرعة شرقٌ، وفي كل أكلة غصص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمر يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف عَلَى أنفسكم، فأين المهرب مما هو كائن! وإنما نتقلب فِي قدرة الطالب، فما أصغر المصيبة اليوم مع عظيم الفائدة غداً، وأكبر خيبة الخائب فيه! والسلام.