للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا مُرَاجَعَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ فَإِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ صِدْقِهِ فِيمَا كَانَ قَدْ أُخْبِرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الرَّجْمَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَإِنْكَارُ الْيَهُودِ ذَلِكَ لَا لِأَنْ يَسْتَفِيدَ حُكْمَ الرَّجْمِ مِنْهَا (١) وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فِي امْتِنَاعِ بَحْثِ الصَّحَابَةِ عَنْ ذَلِكَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ مُتَوَاتِرًا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَالَطَ النَّقَلَةَ لَهُ وَكَانَ فَاحِصًا عَنْهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَغَيْرِهِمَا؟ ! وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ السُّؤَالُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ فَتَرْكٌ لِلظَّاهِرِ الْمَشْهُورِ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُسْمَعُ.

وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأُمَّةِ أَنَّ شَرْعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسِخٌ لِلشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ بَيْنَهُمْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا: رَفْعُ أَحْكَامِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا (٢)

فَمَا لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِشَرْعِهِ ضَرُورَةَ اسْتِمْرَارِهِ فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، فَيَبْقَى الْمَفْهُومُ الْآخَرُ وَهُوَ عَدَمُ تَعَبُّدِهِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَدْلُولِ الْآخَرِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هُدًى مُضَافٍ إِلَى جَمِيعِهِمْ، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ دُونَ مَا وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْهُ لِاسْتِحَالَةِ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالِهِ، وَالْهُدَى الْمُشْتَرَكُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ التَّوْحِيدُ، وَالْأَدِلَّةُ


(١) يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَيُخْزَيَانِ. قَالَ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ " فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. . " الْحَدِيثَ.
(٢) لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: الْأَدِلَّةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ مَا نُسِخَ مِنْهَا غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>