للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ، وَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْآخَرِ، كَمَا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ مَعَ الْأُخْوَةِ، وَقَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ لَكَانَتْ حُجَجُ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَلِفَةً مُتَنَاقِضَةً، وَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ التَّابِعِيِّ لِلْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اخْتِلَافُ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا حُجَجًا فِي أَنْفُسِهَا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونُ الْعَمَلِ بِالْوَاحِدِ مِنْهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّرْجِيحِ، وَمَعَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى التَّرْجِيحِ فَالْوَاجِبُ الْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ، كَمَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ. (١) الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عَنِ اجْتِهَادٍ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ كَالتَّابِعِيِّ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ تَقْدِيمِ مَذْهَبِ التَّابِعِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ; لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (٢)


(١) الِاعْتِرَاضُ غَيْرُ وَارِدٍ، فَإِنَّ قِيَاسَ اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَظَوَاهِرِ النُّصُوصِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ; إِذْ أَخْبَارُ الْآحَادِ وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ جَاءَتْ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَهِيَ تَشْرِيعٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ صَوَابٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُخْرِجُهُ الِاحْتِمَالُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ عَنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَاخْتِلَافُ التَّضَادِّ بَيْنَهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْوَاقِعِ.
(٢) يَعْنِي فِي مُنَاقَشَةِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الْفَرْقَ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَتْقَى حُجَّةً عَلَى مَنْ دُونِهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الْمَعْصُومِ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِهِ، أَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي نَفْسِهِ وَفِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ طَرْدِهِ فِيهِ مَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى رَدِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْقُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. انْظُرْ مُنَاقَشَتَهُ لِلْمُعَارَضَةِ الثَّالِثَةِ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَقَارِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُنَاقَشَتِهِ هُنَا لِلْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ وَالْخَامِسَةِ مِنْ حُجَجِ نُفَاةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>