للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ التَّابِعِيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهِ كَالْأُصُولِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اتِّبَاعُ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ تَقْلِيدًا لَهُ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً مُتَّبَعَةً، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، فَإِنَّ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْغَيْرِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُ فِي مَذْهَبِهِ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (١) وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أَوْجَبَ الِاعْتِبَارَ (٢) وَأَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ اتِّبَاعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْدِيمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ، سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبُ الْقَبُولِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ "، (٣) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اقْتَدَوْا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» " (٤) ، وَلَا يُمْكِنُ


(١) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِيمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِنْ طَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ. انْظُرْ ص ٢٠٣ - ٢٢٨ ج ١٩ مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى.
(٢) يَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الْآيَةَ، بَلْ آيَةُ وُجُوبِ الرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا اعْتَمَدَهُ دَلِيلًا.
(٣) انْظُرْ ص ١٣٢ ج ١، ص ١٥٠ ج ٤.
(٤) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مَوْلًى لِرِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>