للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ (١) إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ بِالْقِيَاسِ يَسْتَدْعِي أَصْلًا ثَابِتًا لَا بِالِاجْتِهَادِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. (٢) قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدِ اخْتُصَّ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ.

قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ زِيَادَةَ الثَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ نَوْعُ فَضِيلَةٍ، فَيَبْعُدُ اخْتِصَاصُ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِفَضِيلَةٍ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.

وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الثَّانِي مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِاجْتِهَادِ أَهْلِ عَصْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَاقِعًا بِدَلِيلِ تَقْرِيرِهِ لِمُعَاذٍ عَلَى قَوْلِهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي "، وَلَمْ يَكُنِ احْتِمَالُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِوُرُودِ الْوَحْيِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَانِعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ وُجُودُ النَّصِّ لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ.

وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ وَاجْتِهَادُهُ مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنْ نُطْقِهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الِاجْتِهَادِ لَا فِي النُّطْقِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اجْتَهَدَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْطِقَ بِحُكْمِ اجْتِهَادِهِ وَالْإِخْبَارُ عَمَّا ظَنَّهُ مِنَ الْحُكْمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ الِاجْتِهَادَ فَلَيْسَ عَنْ وَحْيٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَوًى.

قُلْنَا: إِذَا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ وَقِيلَ لَهُ: مَهْمَا ظَنَنْتَ بِاجْتِهَادِكَ حُكْمًا (٣) ، فَهُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ فَنُطْقُهُ بِذَلِكَ يَكُونُ عَنْ وَحْيٍ لَا عَنْ هَوًى.


(١) " إِنَّمَا " لَعَلَّهُ أَنَّهُ، أَوْ أَنَّهُ إِنَّمَا.
(٢) انْظُرْ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ.
(٣) وَقِيلَ لَهُ: مَهْمَا ظَنَنْتَ. . . إِلَخْ هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ لَا يُفِيدُ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْآيَاتِ سِيقَتْ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ افْتَرَاهُ لِدَافِعِ هَوًى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ عَلَّمَهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، أَوْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَنْ هَوًى كَمَا يَزْعُمُونَ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَوَسَّعْنَا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ كَانَ الْمَعْنَى: وَمَا يَنْطِقُ مُحَمَّدٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ هَوًى، إِنَّ التَّشْرِيعَ كُلَّهُ إِلَّا وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَوْلًا أَوْ إِلْهَامًا أَوِ اجْتِهَادًا، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَحْيًا بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَإِنْكَارِ خَطَئِهِ وَتَقْرِيرِ صَوَابِهِ انْتِهَاءً. انْظُرْ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْمَسْأَلَةَ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلَ الثَّامِنَ مِنْ أَدِلَّةِ مَانِعِي الْقِيَاسِ، وَجَوَابَ الْآمِدِيِّ عَنْهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>