للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَالْمَحْكُومُ لَهُ وَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ هَاهُنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ مَعَ اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سِوَى قَلْبٍ وَاحِدٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُلُوبِ عَلَى مَا يُوجَدُ لِلْقَلْبِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرَدُّدَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مَجَازًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِمَنْ مَالَ قَلْبُهُ إِلَى جِهَتَيْنِ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا: إِنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: {قُلُوبُكُمَا} عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَالَ: {قُلُوبُكُمَا} تَجَوُّزًا حَذَرًا مِنِ اسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ.

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» " إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِهِمَا وَإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ (١) ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَرِّفَنَا الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةِ لَا الْأُمُورَ اللُّغَوِيَّةِ، لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَلِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فِي الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا فِي الِاثْنَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَحَّ مِنْهُ اشْتِقَاقُ اسْمِ الْقَارُورَةِ لِلزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ قَرَارُ الْمَائِعِ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمَا قَارُورَةً.

كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ فِي اسْمِ الرِّجَالِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ إِذْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً.


(١) الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ جُمُوعًا لَا فِي مَادَّةِ الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَمَا سَيَجِيءُ لَهُ آخِرَ الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>