الْآيَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْعُمُومِ، وَلَوْ كَانَ مُسْقِطًا لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى التَّعْمِيمِ خِلَافَ الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بَيَانَ حُكْمِ السَّبَبِ لَا غَيْرَ، بَلْ بَيَانَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ لَمَا أُخِّرَ الْبَيَانُ إِلَى حَالَةِ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ حُكْمِ السَّبَبِ الْخَاصِّ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لَكَانَ جَوَابًا وَابْتِدَاءً، وَقَصْدُ الْجَوَابِ وَالِابْتِدَاءِ مُتَنَافِيَانِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ السَّبَبِ عَامًّا لَجَازَ إِخْرَاجُ السَّبَبِ عَنِ الْعُمُومِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ، ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ الْعُمُومِ إِلَى الْكُلِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّبَبِ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ لَمَا نَقَلَهُ الرَّاوِي لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: تَغَدَّى عِنْدِي، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تَغَدَّيْتُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَوَابًا عَامًّا فَمَقْصُورٌ عَلَى سَبَبِهِ حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَائِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ خَاصًّا فَلَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَالْأَصْلُ الْمُطَابَقَةُ لِكَوْنِ الزِّيَادَةِ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ السَّائِلِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (١) ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسَلَّمًا، لَكِنْ لَا مَانِعَ مِنِ اخْتِصَاصِ إِظْهَارِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ،
(١) رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَتَشْرِيعِهِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي حِكْمَتِهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا إِلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ