وثانيهما: في بيان أن المناسبة دالة على العلية وإن لم نقل بوجوب تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح.
والدليل عليه هو: أنا لما تأملنا الشرائع وجدنا المصالح والأحكام مقترنين لا ينفك أحدهما عن الأخرى، وذلك يقتضى حصول غلبة الظن بحصول أحدهما عند حصول الأخرى؛ لأن وقوع الشيء مرارًا كثيرة على وجه مخصوص يقتضي ظن أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه المخصوص.
ألا ترى أن دوران الأفلاك، وطلوع الكواكب وغروبها، وبقائها على أوضاع مخصوصة غير واجب أن يكون كذلك على رأى المليين، مع أنه قد يجزم بأنه لا يقع إلا على ذلك الوجه المخصوص؛ لما أن الله تعالى أجرى عادته بإيقاع كل واحد منها على وجه مخصوص، وعلى هذا أيضًا الجزم بترتيب جميع المسببات على أسبابها مع أن ذلك ليس على سبيل الوجوب، لما عرف أن ترتبها عليها إنما هو بخلق الله تعالى، فثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية وإن لم تعلل أفعال الله تعالى وأحكامه، وإذا ثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية لزم أن يجب العمل به للأدلة التي تقدمت في أن العمل بالظن واجب.
فإن قيل: لا نسلم أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بالمصالح ولا نسلم انعقاد الإجماع على ذلك، وكيف يدعى ذلك مع أن مذهب جماهير المتكلمين من أهل السنة أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى، فإن عندهم أن كل من فعل فعلًا لغرض سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أو إلى الغير فإنه يكون حصوله بالنسبة إليه أولى، وإذا كان كذلك فيكون ناقصًا في نفسه مستكملًا بغيره، وهو في حق الله تعالى محال.
أما الوجه الأول وهو الاستدلال بكونه حكيمًا على ذلك فضعيف؛ وهذا