وأما الكلام على الدليل على المقدمة الثالثة فهو أن الدليل الأول مبني على أن استحصاب الحال حجة وسيأتي الكلام فيه أيضًا.
سلمنا حجيته في الجملة لكن لا نسلم أن الموجب لذلك الظن ليس إلا تينك المقدمتين بل هما مع ما نعلمه من أمرين آخرين من الإنسان وهما كون الإنسان بطبعه يميل إلى جلب المصالح ودفع المضار وهذا المعني غير موجود في حق الله تعالى؛ فإن الله تعالى منزه عن ذلك وكونه يراعي النوع المخصص من الحاجة، وليس المطلوب دفع عموم الحاجة حيث كان دفع الحاجة مطلوبًا وإلا لاندفعت الحاجات كلها، بل دفع الحاجة الخاصة، فلا جرم عند العلم بذلك يحصل الظن/ (١٨٣/ أ) بأن الإنسان إنما فعل الفعل الفلاني لأجل كذا، وليس هذا النوع من العلم حاصلًا من جهة الله، فلا جرم لم يجب حصول ذلك الظن بل المعلوم منه تعالى خلافه؛ بدليل اختلاف أفعاله وأحكامه بالنسبة إلى الأزمان والأشخاص.
سلمنا أن ما ذكرتم يدل على صحة قولكم لكنه معارض بوجوه:
أحدهما: أن الحكم لو كان معللًا فإما أن يكون معللًا بالحكمة وهو باطل؛ لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها، أو بالوصف وهو أيضًا باطل.
أما أولًا: فلأن الوصف إنما يكون علة لاشتماله على الحكمة بدليل أنه لو لم يتضمنها لم يجز جعله علة، ولما بطل أن تكون الحكمة علة بطل أن يكون متضمنها لأجلها يكون علة.
وأما ثانيًا: فلأن الحكمة حينئذ تكون على علته فيعود ما تقدم من المحذور.
وثانيها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه غير معللة بدفع حاجة العبيد؛ إذ