أحدهما: أن الأمر الثاني في اقتضاء الفعل على جهة الوجوب أو الندب أو غيرهما من الاحتمال كالأمر الأول، فلو صرفنا الأمر الثاني إلى الأمر الأول لزم حصول ما يقتضي الفعل ووجوبه أو ندبيته من غير حصول اقتضاء الفعل ووجوبه أو ندبيته، لأن اقتضاء الفعل الأول ووجوبه مثلاً حاصل بالأمر الأول، وتحصيل الحاصل محال.
وثانيهما: أنا بينا في باب اللغات أن اللفظ إذا دار بين أن يفيد فائدة تأكيدية وبين أن يفيد فائدة تأسيسية كان حمله على الفائدة التأسيسية أولى.
واحتجوا: بأن الأصل براءة الذمة، وإنما شغلنا الذمة بمدلول [الأمر] الأول لضرورة أعماله، لأنه لا يمكن حمله على التأكيد، وأما الأمر الثاني فمحتمل للتأكيد فلو شغلنا الذمة بمدلوله لزم إيجاب الشيء مع الشك ولزم أيضًا تكثير مخالفة البراءة الأصلية.
وجوابه: أنا نسلم أنه محتمل للتأكيد، لكن احتمالاً مرجوحًا فلا يلزم إيجاب الشيء مع الشك بل مع الظاهر المقتضي له، وبه خرج الجواب عن الثاني إذ ليس من شرط ما به يخالف البراءة الأصلية أن يكون قاطعًا بل يجوز أن يكون ظاهرًا، وأيضًا فإنه معارض بطريق الاحتياط فإنها تقتضي الحمل على غير ما حمل عليه الأول، لأن تقدير حمله عليه لم يلزم إلا فوات فائدة التأكيد، وهو غير موجب للعقاب والذم، وأما بتقدير حمله على التأكيد يلزم فوات الفعل الواجب، وهو موجب للعقاب أو الذم.