يكونوا احتسبوا، وأوقفوا على مساوئ ما علموا، ونوقشوا على دقائق ما اقترفوا، وحبسوا في أضيق الحبوس التي في الدنيا لغيرهم حبسوا، وشددوا بأشد الذي شددوا، وعوقبوا بأبلغ ما عاقبوا، وبالنار أحرقوا، وبأيديهم وأرجلهم فيها بالأغلال غلوا، ومن زقوم وضريع طعموا، ومن حميم سقوا، ومن طينة الخبال ثنوا.
أما كانت لك بهؤلاء الماضين عبرة، وبالمأسورين عن أهاليهم عظة عن ادعاء ملك ما خلقوا، وسكنى ما بنوا وعنه أجلوا، إذ كانوا في بنائهم ذلك جاروا أو ظلموا، فكم من عرض وظهر وخد ورأس حينئذ نالوا وضربوا، وكم من عين مسكين بائس فقير ذليل أبكوا وأدمعوا، وكم من غني ذي حسب أذلوا وأفقروا، وكم من بدعة وسنة سيئة ورسم شرعوا ورسموا، وكم من قلب حكيم لبيب عليهم كسروا وأغضبوا، وكم من دعاء ونحيب وصوت حزين في جنح الليل من أرباب القلوب لظلمهم إلى الرحمن رفعوا، شكاية منهم إليه في كشف ما بهم، إذ هم على الخبير سقطوا، فانتدبت لذلك الملائكة الكرام وإليه بادروا، وإلى الملك العظيم المنصف غير الجائر وصلوا وانتهوا، فنظر العزيز الحكيم العليم بما في صدورهم، والخبير بما يخفون وما يعلنون فيما شكوا ومنه ضجوا فأجابهم العزيز الجليل «لأنصرنكم ولو بعد حين».
فجعلهم حصيدًا {فهل ترى لهم من باقية}[الحاقة: ٨] فقوم بالغرق، وقوم بالخسف، وقوم بالحصب، وقوم بالقتل، وقوم بالمسخ في الصور، وقوم بالمسخ بالمعاني بأن جعل قلوبهم قاسية كالحجارة الصماء، فطبع عليها بطابع الكفر، وختمها بخاتم الشرك والرين والغطاء والظلمة، فلم يلج فيها الإسلام ولا الإيمان، ثم أخذهم أخذة رابية، وبطش بهم بطشة الجبار، فأدخلهم دار البوار {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها}[النساء: ٥٦] فهم أبدًا في نكال وجحيم وطعام ذي غصة وعذاب أليم {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض}[هود: ١٠٧] لا يموتون فيها ومنها لا يخرجون، لا غاية لويلهم ولا منتهى لثبورهم، ولهم فيها معيشة ضنك، لا يتخلص إليهم روح ولا يخرج منهم نفس ولا روح، انقطعت آمالهم وأصواتهم، وتشتت قلوبهم في حلوقهم، وخرست ألسنتهم، وقيل لهم:{اخسئوا فيها ولا تكلمون}[المؤمنون: ١٠٨].
فاحذر يا مسكين أن تفعل بأفعالهم، أو تستن بسنتهم، فتقفو آثارهم، فتموت من غير توبة، وتؤخذ على غفلة وغرة، من غير أن تمهد لنفسك عذرًا، وتعد لك جوابًا ومخلصًا، وتقدم بها زادًا ومجازًا، فيحل بك من العذاب والنكال ما حل بهم.