وكذلك لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتهم فيه}[طه: ١٣١] فأدب نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بحفظ الحال والرضا بالقضاء والعطاء بقوله تعالى: {ورزق ربك خير وأبقى}[طه: ١٣١] أي ما أعطيتك من النبوة والعلم والقناعة والصبر وولاية الدين والقدوة فيه أولى مما أعطيت غيرك وأحرى، فالخير كله في حفظ الحال والرضا به، وترك الالتفات إلى ما سواه، لأنه لا يخلو إما أن يكون ذلك قسمك أو قسم غيرك، أو أنه لا قسم لأحد، بل أوجده الله تعالى فتنة.
وإن كان قسم غيرك فلا تتبع فيما لا تناله ولا يصل إليك أبدًا.
وإن كان ليس بقسم لأحد بل هو فتنة، فكيف يرضى العاقل ويستحسن اللبيب أن يطلب لنفسه فتنة ويستجلبها.
وقال قوم: الرضا بالقضاء هو أن يستوي عندك ما تحب وما تكره من قضائه عز وجل.
وقال بعضهم: هو الصبر على مر القضاء.
وقال آخر: هو طرح الكف بين يدي الله عز وجل والتسليم لأحكامه.
وقال آخر: هو إسقاط التخيير على المدبر.
وقال آخر: هو ترك الاختيار.
وقال بعضهم: أهل الرضا هم الذين قطعوا عن قلوبهم في الأصل الاختيار، فهم لا يختارون شيئًا من الأشياء مما تريد أنفسهم، ولا شيئًا مما يريدون به الله، ولا يسألونه ولا يطالعون حكمًا قبل نزوله، فإذا وقع حكم من الله حيث لا يتشوقون إليه ولم يطالعوه، رضوا به فأحبوه وسروا به.
وقال: إن لله عبادًا إذا وقع بهم الحكم من البلوى رأوه نعمة من الله عليهم، فشكروه عليها وسرّوا بها، ثم رأوا بعد سرورهم بالنعم أن اشتغالهم بالنعمة عن المنعم نقص، فاشتغلت قلوبهم بالمنعم عن النعم فكان البلاء جاريًا عليهم وقلوبهم غائبة عنه، فلما استوطنوا هذا المقام وداوموا عليه نقلهم مولاهم إلى ما هو أعلى لهم وأسمى من ذلك، لأن مواهبه عز وجل لا غاية لها ولا نهاية.