"وكذلك من يشتغل بالعلم؛ لأنه أحد نوعَي الجهاد، فيكون اشتغاله بالعلم للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فلْيأخذْ مِن أموال الفَيْء أو الوُقوف على العلم قَدْرَ الكِفاية ليتقوَّى على جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من كفايته من ذلك". (١)
أقول:
إنّ المتصفِّح لأسطُر هذا الكتاب سيقف على حقيقةٍ هي من الأهمية بمكان، وهي أنّ أخصَّ ما ميَّزَ أهل السنة والجماعة مِن غيرهم مِن فِرَق الأمة أمران:
(تعظيم الأثَر، والثبات على المنهج).
فتعظيم الأثر هو أحد أهمّ الدلائل على صحة الادّعاء أنّ أهل السنة والجماعة هم الفِرْقة الناجية.
فاعتصام أهل السنة والجماعة بالآثار أمرٌ بيّنٌ واضحٌ وُضوحَ الشمس في رائعة النَّهار، وليس أدلّ على صحة هذا الأمر- الذي هو اتباع ظواهر النصوص والعَضّ عليها بالنَّواجِذ- مِن كونه صار سُبّةً يُرمى بها أهل السنة والجماعة.
فالآثار هي غنيمة أهل السنة، {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}، فقد تمسَّكوا بالمسطور، ونبذوا محدَثات الأمور، حتى خرجت عقيدتهم مِن بَينِ فَرْثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصًا سائغًا لِلشّاربينَ.
وأما الأمر الثاني "الثبات على المنهج":
فمن سمات أهل السنة والجماعة الثباتُ على المنهج، وهذه مما حَظِيَ به أهل السنة والجماعة دُونَ غيرهم من الفرق، فتقرأ كثيرًا عن الاختلاف البيِّن الواسع والتخبُّط الظاهر الشاسع بين المتقدمينَ والمتأخرينَ في كل فرقة من الفرق الضالّة، وتسمع كثيرًا قول القائل: متأخِّرو القدرية، ومتقدِّمو الأشاعرة... إلخ، ومِثل هذا لا تراه- بفضل الله- عند أهل السنة والجماعة.
وكم من إمامٍ من الأئمة الكبار في تلك الفِرَق رأيناه يُظهر الندامة على عُمره الذي أضاعه في القِيلِ والقالِ، والطريقِ السقيمِ الضالّ؛ لِيُعلنَ العودة إلى سَواء السبيل وشِفاء العَليل، إلى آثار النُّبُوّة والتنزيل!