(٢) وقد وقع الخلاف في تأويل قوله تعالى: {وما تعملون}، هل (ما) هنا مصدرية، فيكون المعنى: خلقكم وخلقَ أعمالَكم، أم هي موصولة، ويكون المعنى: خلقكم وخلقَ الذي تعملون من أصنام وغيرها؟ ١ - القول الأول: ١ - أنها مصدرية: فيكون المعنى: "والله خلقكم، وخلق عملكم وفعلكم، "قال البخاري: "باب أفعال العباد، ثم روى عن حذيفة -رضي الله عنه-قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته»، وتلا بعضهم عند ذلك: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: ٩٦]، فأخبر أن الصناعاتِ وأهلَها مخلوقةٌ. ا. هـ وقد ذهب من أهل السنة إلى ترجيح أنها مصدرية لإثبات أن أفعال العباد مِن خلق الله؛ وفي ذلك إبطال لمذهب القدرية. ٢ - القول الثاني: ٢ - أنها موصولة: فيكون المعنى: والله خلقك، وخلق ما تصنعونه من أشياء، كالأصنام وغيرها. والراجح -والله أعلم- أنها موصولة؛ لأن السياق يقتضي ذلك، فإن إبراهيم -عليه السلام- إنما يقرر فساد عملهم في أنهم يعبدون ما هو مخلوق مثلهم. وتأملْ في أول الآيات يخبرْك عن آخرها، فإنه أولاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: ٩٥]، فالخطاب متوجِّهٌ لما يعبدون مما صنعتْه أيديهم؛ فيكون المعنى: أتعبدون ما تنحِت أيديكم، والله خلقكم وإياها؟! * وأما القول بأنها مصدرية، أي: خلقكم وعملكم، فسياق الآية يأباه، لأن إبراهيم -عليه السلام - إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير. قال ابن القيم: "أما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} بحمْل "ما" على المصدر، أي: "خلقكم وأعمالَكم" فالظاهر خلاف هذا، وأنها موصولة، أي: خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها؛ فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم، فإنّ "الصنم" اسم للآلهة التي حل فيها العمل المخصوص، فإذا كان مخلوقاً لله كان خلقه متناوِلاً لمادّته وصورته". ا. هـ * ثم قال -رحمه الله-: "فإن كانت "ما" مصدرية -كما قدَّره بعضهم- فالاستدلال ظاهر، وليس بقويّ؛ إذ لا تناسُب بين إنكاره عليهم عبادةَ ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خالقُ أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحْتها وغير ذلك؛ فالأَوْلى: أن تكون "ما" موصولة، أي: والله خلقكم وخلقَ آلهتكم التي عملتموها بأيديكم، فهي مخلوقة له، ليس فيها أنه يبرر شركَهم بالله، ويقول: إنّ عملكم مخلوق لله، فأنتم بريئون من اللوم عليه! كلّا! لأننا لو قلنا ذلك لكان يحتجّ لهم ولا يحتج عليهم، ولكنْ هو يحتج عليهم، وليس يحتج لهم". ا. هـ. * تنبيه: قد رجَّح الزمخشري أنها موصولة، ولكنه أراد بذلك نصرة مذهبه الاعتزالي الذي يتبنى القول بأن أفعال العباد مِن خلقِهم هم، فقال وهو يرمي أهل السنة بالجبر: "فإن قيل: فما أنكرتَ أن تكون " ما " مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: " والله خلقكم وعملكم "، كما تقول المجبرة!! = = *وانظر لما سبق: درء التعارض (٣/ ٢٦٠) وشفاء العليل (ص/١١٠) والكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (٤/ ٥١) وخلق أفعال العباد (ص/٣٣) ومباحث الربوبية (ص/١٩٠).