للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ربه، فهذا المقامُ كان الأَوْلَى له أن يفعله أَمامَ مُعاتَبةِ موسى له.

وهذا من باب التنزُّل.

** نعمْ، كانت المعصية بقدر الله - تَعالَى -، لا شك في ذلك، قال - تَعالَى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: ٤٩]، وقال - تَعالَى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصّافّات: ٩٦]؛ ولكنْ كان ذلك أيضاً بإرادة آدم -عليه السلام- ومشيئتِه، قال - تَعالَى -: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: ٧٩].

* فلمّا تاب آدم -عليه السلام- من معصيته واستغفرَ ربَّه وأنابَ، دلَّ ذلك أنه -عليه السلام- ما احتجَّ بالقدر على المعصية، بَلِ احتج بالقدر على مصيبة الخروج من الجنة، فقال: «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ؟».

* لذا نقول: إن آدم -عليه السلام- لم يحتجَّ بالقدر على الذنب، وإنما احتج به على المصيبة، وهذا هو اعتقاد أهل السّنّة، فإنَّ القدَر إنّما يُحتجُّ به على المصائب، ولا يُحتجُّ به على الذنوب والمَعايب.

فالمؤمن مأمورٌ أن يَرْجِعَ إلى القدر عند المصائب، لا عند الذنوب والمعايب، فيصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعايب، كما قال - تَعالَى -:

... {فَاصبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، فالمرء يدور حاله بين الصبرِ حالَ المصائبِ، والاستغفارِ حالَ المَعايبِ. (١)

** ومِثل هذا يُسْتَقَى من قول رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: "قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ"؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». (٢)

وتأمَّلْ في قوله: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ»،

وهذه هي طريقة المُهْتدينَ، على خلاف طريقة الضّالّينَ الذين


(١) الرسالة التدْمريّة (ص/٢٣٠)، ولوامع الأنوار البَهِيّة (١/ ٣٤٧).
(٢) أخرجه مسلم (٢٦٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>