للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُجّةَ لَهُمْ فيه أيضاً؛ لأنّ الموجود بالاعتبار والمشاهَدة خلافُ قولِهم، وذلك أنّ العباد لا يأتون الذنوبَ إلا مُشْتَهِينَ لها، راغبينَ فيها، والإجبارُ عند أهل اللغة: هو اضطرار المَرْءِ إلى الفعل، وإدخالُه فيه، غيرَ راغبٍ فيه، ولا مُحِبٍّ له، كالمسحوبِ على وجهه، والمُرْتَعِشِ من الحُمَّى والفالِجِ". (١)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"إنَّ القَدَرَ ليس حُجَّةً لأحدٍ على اللهِ، ولا على خَلْقِهِ؛ ولو جازَ لأحدٍ أن يحتجَّ بالقَدَر على ما يفعلُه من السيِّئات لَمْ يُعاقَبِ الظّالِمُ، ولَمْ يُقْتَلِ المُشْرِكُ، ولَمْ يُقَمْ حَدٌّ، ولَمْ يُكَفَّ أَحَدٌ عن ظُلْمِ أحدٍ، وهذا من الفساد في الدين والدنيا المَعلومِ ضَرُورةً". (٢)

ثانياً:

إننا لا نسلِّم لَكُمْ أنّ احتجاج آدم -عليه السلام- احتجاجٌ بالقدر على المعصية، وإنما كان احتجاجه على المصيبة التي ترتَّبَ عليها إخراجُ آدمَ -عليه السلام- وذريتِه من الجنة، كما سبقَ ذِكرُه مفصَّلاً.

** ولو تنزّلْنا معكم أنّ آدم-عَلَيْهِ السَّلامُ- قد احتج بالقدر على المعصية، فهو قد تاب من ذلك، وأنابَ؛ ولِلعاصي أن يحتجَّ بالقدر إذا تاب من معصيته، كما تَبَنَّى ذلك ابنُ القَيِّمِ. (٣)

* ومما سبق يتبيّنُ أنّ الفِرقتينِ قد تَنازَعُوا الحديثَ بينَ الجُفُوِّ والغُلُوِّ:

أ) أمّا الجبرية:

فجعلوا الحديثَ حجةً لهم على الاحتجاج بالقدر على فعل


(١) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (٣٠/ ١٦٥).
(٢) مجموعة الرسائل الكبرى (١/ ٣٥٣).
(٣) قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ: "وإنّما صَحَّتِ الحُجّةُ في هذِه القصة لآدمَ على موسى؛ مِن أجْل أنّ الله قد غفرَ لآدمَ وتاب عليه، فلم يكنْ لموسى أنْ يُعيِّرَه بما قد غفرها الله له؛ ولذلك قال له آدمُ: أنت موسى الذي آتاك اللهُ التوراةَ، وفيها عِلمُ كل شيء، فوجدتَ فيها أنّ الله قد قدّر عليّ المعصية، وقدّر عليّ التوبة منها، وأسقطَ بذلك اللومَ عنّي، أفتلومني أنت، واللهُ لا يلومني؟!
وبِمِثْلِ هذا احتجَّ ابن عمر على الذي قال له: إنّ عثمان فرَّ يومَ أُحُدٍ، فقال ابنُ عمرَ: "ما على عثمانَ ذَنْبٌ؛ لأنّ الله قد عفا عنه بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: ١٥٥] ".
وانظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (٣٠/ ١٦٣).
وقد ذكر ابن عبد البر جواباً ثالثاً في مسألة اعتذار التائب بالقدر، فقال: "هو خاصٌّ بآدم -عليه السلام- لأنّ الله -عز وجل- أخبره أنه تاب عليه؛ فيجوز له أن يحتج بالقدر، وأمّا غيرُه فلا يَعلمُ بتوبة الله عليه، فلا يَحتجّ بالقدر".
وانظر: الاستذكار (٨/ ٢٥٨)، والقضاء والقدر لعبد الرحمن بن المحمود (ص/٤١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>