لذا فلا يُحمل حديث الباب على الاختلاف في الأحكام العملية، ولا في المسائل والأقوال الفقهية، ولم يزَل الخلاف حاصلاً في الفروع بين أهل العلم من لَدُنِ الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يوم الناس هذا، دون أن يُحدث هذا الأمر فرقة بينهم. ولم يزَل علماء الأمة يصنِّفون في مسائل الخلاف بين العلماء في الفروع الفقهية، ومن الأمثلة على ذلك:
كتاب [اختلاف أبي حَنيفة وابن أبي ليلى] لأبي يوسف الأنصاري، وكتاب [اختلاف الفقهاء] للمَرْوَزِي، وكذلك [اختلاف الفقهاء] لابن جَرير، والأمثلة في ذلك كثيرة.
قال الإمام أبو منصور التميميُّ:
وقد عَلِم كلُّ ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُرد بالفرق المذمومة التي هى من أهل النارفرَق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين؛ لأن المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام، ليس فيما بينهم تكفير ولا تضليل فيما اختلفوا فيه من أحكام الفروع، وإنما فصَّل النبي عليه السلام بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية في أبواب العدل والتوحيد، أو في الوعد والوعيد، أو في بابَي القدر والاستطاعة، أو في تقدير الخير والشر، أو في باب الهداية والضلالة، أو في باب الإرادة والمشيئة، أو في باب الرؤية والإدراك، أو في باب صفات الله عز وجل وأسمائه وأوصافه" (١).
وهذا ما ذكره الامام الشاطبي معلقاً على حديث الباب كما في قوله: "فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد؛ لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلينَ تحت إطلاق اللفظ، وذلك باطل بالإجماع؛ فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية، ولم يَعِبْ أحد ذلك منهم، فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث؟!
(١) [الفَرْق بين الفِرَق، وبيان الفرقة الناجية] (١/ ٢٦)،