وَقَدْ كَانَ نَوْعٌ مِنْهَا غَيْرَ مَذْمُومٍ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ فَقَالَ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْمُومَ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ (إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ لَا يَتَحَمَّلُ الْمُخَالَفَةَ الْكُلِّيَّةَ) بِحَيْثُ لَا يَبْقَى حَظُّ نَفْسٍ فِي شَيْءٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْبَشَرِيَّةِ وَالْتِحَاقٌ بِالْمَلَكِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَدُومُ لِلْبَشَرِ وَمُمْتَنِعٌ لِإِفْسَادِهِ الْبِنْيَةَ الْعُنْصُرِيَّةَ الْمَادِّيَّةَ فَلَا تَكْلِيفَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يُطَاقُ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا» (وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْغُلُوِّ) تَجَاوُزِ الْحَدِّ (وَالْإِفْرَاطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: ٧٧] (وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الِاقْتِصَادِ أَنَّهُ) أَيْ الْغُلُوَّ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْمَلَالَةَ وَالسَّآمَةَ) أَيْ التَّكَاسُلَ وَالتَّقْصِيرَ (الْمُؤَدِّيَةَ) بَعْدَ ذَلِكَ (إلَى عَدَمِ الْمُدَاوَمَةِ الْمَذْمُومِ جِدًّا) قَطْعًا وَقَوِيًّا (فِي الْعِبَادَةِ) لَعَلَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ إذْ يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الْعَوَامّ وَفِي حَالِ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا فِي الْخَوَاصِّ وَحَالِ الِانْتِهَاءِ فَلَا يَبْعُدُ وُجُودُهُ (وَلِذَا) لِقُبْحِ الْمَلَلِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ» الصَّالِحَةِ «مَا تُطِيقُونَهُ» أَيْ تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَا مَشَقَّةٍ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ» أَيْ لَا يَعْرِضُ عَنْكُمْ إعْرَاضَ الْمَلُولِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ لَا يَقْطَعُ الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ عَنْكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطُ الطَّاعَةِ أَوْ لَا يَتْرُكُ فَضْلَهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا سُؤَالَهُ ذَكَرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِلِازْدِوَاجِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] وَإِلَّا فَالْمَلَالُ فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ شَيْءٍ فَيُورِثُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى «حَتَّى تَمَلُّوا» بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَيْ تَقْطَعُوا أَعْمَالَكُمْ أَوْ تُقَلِّلُوا مِنْهَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رَاوِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ ذُكِرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ ثُوَيْبٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَذَكَرَهُ «وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ» وَاظَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ «، وَإِنْ قَلَّ» وَالظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَالْوَاقِعُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَأْلَفُهُ فَيَدُومُ بِسَبَبِهِ الْإِقْبَالُ عَلَى الْحَقِّ تَقَدَّسَ؛ وَلِأَنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَاظِبَ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ كَمَنْ جَدَّ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ الْأَعْتَابِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَنْجَابِ لَا تَقْطَعْ الْخِدْمَةَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَك عَدَمُ الْقَبُولِ وَكَفَى بِك شَرَفًا أَنْ يُقِيمَك فِي خِدْمَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُدَاوِمَ يَدُومُ لَهُ الْإِمْدَادُ مِنْ حَضْرَةِ رَبِّ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ شَدَّدَ الصُّوفِيَّةُ النَّكِيرَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ وَرَأْفَةُ الْمُصْطَفَى بِأُمَّتِهِ حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ فِيهِ أَنْشَطُ وَبِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْحُضُورُ هَذَا عُصَارَةُ مَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ الدَّوَامِ وَأَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّوَامِ التَّرَفُّقُ بِالنَّفْسِ وَتَدَرُّبُهَا بِالتَّعَبُّدِ لِئَلَّا تَضْجَرَ فَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا (خَرَّجَهُ) هَذَا الْحَدِيثَ (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِلَا ضَرَرٍ «فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَسْأَمُوا» يَعْنِي اعْمَلُوا بِحَسَبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute