الْقَلْبِ بِالْمَعَاشِ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِعَاشِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً مَا فَهِمْت مَسْأَلَةً (وَ) تَحْصِيلَ (الْجَاهِ) أَيْ رِفْعَةِ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ وَمَزِيَّةِ الشَّرَفِ بِالْمَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ (كَذَلِكَ) أَيْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى عَمَلِ الْبِرِّ أَوْ كَانَ الرِّيَاءُ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا.
(فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِدْقِهِ) أَيْ الْمُرَائِي فِي تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ رَاءَى لَهَا (لَا يُفِيدُ) فِي دَفْعِ الْحُرْمَةِ (وَلَا يَجْعَلُهُ) الرِّيَاءُ بِالْعِبَادَةِ (حَلَالًا) لِامْتِنَاعِ الِانْقِلَابِ وَلِعَدَمِ وُجُودِ رَافِعِ الْحُرْمَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ غَرَضَهُ الْمَذْكُورَ (تَلْبِيسٌ وَكَذِبٌ) عِنْدَ اللَّهِ (فِعْلِيٌّ) مَنْسُوبٌ إلَى الْفِعْلِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ لَا كَذِبٌ قَوْلِيٌّ (وَصُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) تَهَاوُنٍ (وَاسْتِهْزَاءٍ) سُخْرِيَةٍ لِأَنَّهُ عَبْدٌ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِي الظَّاهِرِ وَلِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ غَايَتُهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى رِضَا الْمَعْبُودِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي صُورَةِ اسْتِهَانَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ أَوْ لِأَنَّهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ ثُمَّ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ فِيهِ صُورَةُ الْمُسْتَهْزِئِ لَا حَقِيقَتُهُ إذْ حَقِيقَتُهُ كُفْرٌ (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَلَبِهِ بِهَا الْمَالَ وَالْجَاهَ الْمَذْكُورَيْنِ) اللَّذَيْنِ يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْعِبَادَةِ يَعْنِي يَطْلُبُ بِالْعِبَادَةِ الْمَالَ لِيَكُونَ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَالْجَاهَ لِيَكُونَ سَبَبًا لَهَا وَلِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالشَّوَاغِلِ وَالتَّفَرُّغِ لَهَا (ابْتِدَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِدُونِ قَصْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَإِحْدَاثِهِ، فَلَا يَضُرُّ مَا فِي مُجَرَّدِ الْإِظْهَارِ.
(وَلَمْ يُرِدْ) بِذَلِكَ (إرَاءَةَ النَّاسِ وَإِسْمَاعَهُمْ) مِنْ السُّمْعَةِ (فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا رِيَاءٌ كَمَا سَبَقَ) فِيمَنْ أَرَادَ إرَاءَةَ النَّاسِ أَوْ غَرَضُهُ صِيَانَةُ النَّاسِ (لِأَنَّهُ) أَيْ قَصْدَ عِبَادَتِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً (لَيْسَ فِيهِ تَلْبِيسٌ وَلَا صُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) لِكَوْنِهِ مُخْلِصًا إذْ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْلُوطِيَّةٌ وَتَلْبِيسٌ فَلَيْسَ بِخَالِصٍ فَلَا يَكُونُ إخْلَاصًا كَمَنْ يَصُومُ لِلَّهِ وَيُرِيدُ خِفَّةَ مُؤْنَةِ طَبْخِ الطَّعَامِ وَشِرَائِهِ وَيَعْتِقُ لِلتَّبَرِّي مِنْ نَفَقَةِ الْعَبْدِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ وَيَحُجُّ لِتَصْحِيحِ بَدَنِهِ بِالسَّفَرِ أَوْ لِهَرَبِ الْعَدُوِّ أَوْ لِتَفَرُّجِ الْبُلْدَانِ أَوْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِتَسْهِيلِ الْمَعَاشِ، أَوْ لِلْمُحَارَسَةِ مِنْ الظَّلَمَةِ، أَوْ يَكْتُبُ مُصْحَفًا لِيُجَوِّدَ خَطَّهُ، أَوْ يَحُجُّ مَاشِيًا لِتَخْفِيفِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ أَوْ يَتَوَضَّأُ لِلنَّظَافَةِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ يَغْتَسِلُ لِتَطْيِيبِ رَائِحَتِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ إبْرَامِ السَّائِلِ أَوْ يَعُودُ مَرِيضًا لِيُعَادَ إذَا مَرِضَ فَإِذَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ الْإِخْلَاصُ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إخْلَاصُ سَاعَةٍ نَجَاةُ الْأَبَدِ وَتَوَقَّفَ أَكْثَرُ السَّلَفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخَيْرَاتِ حَتَّى امْتَنَعَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: لَيْسَ ظَفْرٌ فِي النِّيَّةِ.
(نَعَمْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُمَا) مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ (الْحَظَّ الْعَاجِلَ) حَظَّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ وَمُيُولَاتِهَا بِدُونِ قَصْدِ الْعِبَادَةِ (فَرِيَاءٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي ذَيْلِ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَوْنُ غَرَضِهِ مِنْهُ الطَّاعَةَ (لَا يَحِلُّ) قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَإِنْ أَرَادَ مِنْ الْخَالِقِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُرَادًا مِنْ الْخَالِقِ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ كَمَا مَرَّ (لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً وَشَبَكَةً) صَيْدًا (لِلدُّنْيَا) لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَتَهُ لِنَفْعِ الدُّنْيَا فَقَطْ (وَقَدْ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْعِ الْآخِرَةِ) فَقَطْ فَقَلَبَ الْمَشْرُوعَ وَعَكَسَ الْمَوْضُوعَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَفِيهِ قَلْبُ الْمَوْضُوعِ فَلَا يُفِيدُهُ) فِي انْتِفَاءِ الرِّيَاءِ (كَوْنُ إرَادَتِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ الْخَلْقِ) لِأَنَّ هَذَا الْغَرَضَ الدُّنْيَوِيَّ يُنَافِيهِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا»
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا مِنْ الطِّبِّ الْإِلَهِيِّ وَإِنَّهَا تَنْفَعُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَإِزَالَةِ الْمَرَضِ وَلِذَا كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute