عَادَةُ الْمَشَايِخِ قِرَاءَتُهَا فِي أَيَّامِ الْعُسْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إرَادَةُ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ قُلْنَا أَجَابَ عَنْهُ الْغَزَالِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَحَكَى عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي إنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَالْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنْ يُرْزَقَ الْقَنَاعَةَ أَوْ الْقُوَّةَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَعَلَى دَرْسِ الْعِلْمِ وَهَذِهِ مِنْ إرَادَةِ الْخَيْرِ لَا الدُّنْيَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ عُوتِبَ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ إذْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ دُنْيَا: خَلَّفْتُ لَهُمْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَلِذَا كَانَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بَنَاتِهِ بِقِرَاءَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى ذَيْنِك الْقَنَاعَةِ وَالْقُوَّةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ بَعِيدٌ وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: وَقِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعِنْدَنَا أَيْضًا النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إنْ لَمْ يَصْرِفْهَا قَطْعِيٌّ وَأَيْضًا لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ
وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمَقْرُونَ بِشَرَائِطِ الرِّوَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا مَشْرُوعِيَّةَ نَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْغَزَالِيُّ نَفْسُهُ صَرَّحَ بِالْخَوَاصِّ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الرَّبَّانِيَّةِ لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَعَلَّ الْحَقَّ عَدَمُ الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ وَجَوَازُ جِنْسِ ذَلِكَ مُطْلَقًا إنْ أَرَادَ بِالرِّزْقِ عُدَّةَ ذُخْرِ الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَمَنْعُهُ، غَايَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ وَمَوْرِدُ النَّصِّ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ إرَادَةَ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَلْ إرَادَةَ مَتَاعِ الْآخِرَةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَافْهَمْ كَيْفَ وَالْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ مَعَ تَعْوِيلِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ اشْتِغَالَ الْآيَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ مِنْ الْآفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ لِقَهْرِ الْعَدُوِّ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْقَهْرِ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَأْيِيدِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَنَشْرَ الْعِلْمِ وَحَضَّ النَّاسِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا إرَادَاتٌ مَحْمُودَةٌ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ بِالْحَقِيقَةِ، انْتَهَى.
(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ} [الشورى: ٢٠] بِعَمَلِهِ {حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: ٢٠] فِي الْقَامُوسِ الْحَرْثُ كَسْبُ الْمَالِ وَجَمْعُهُ وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالنَّفْعِ {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: ٢٠] أَيْ مِنْ بَعْضِ الدُّنْيَا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُؤْتِيهِ جَمِيعَ مُرَادِهِ {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: ٢٠] لِاسْتِعْجَالِهِ نَصِيبَهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِرَادَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ فَعُلِمَ أَنَّ إرَادَةَ نَفْعِ الدُّنْيَا مِنْ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَيْسَ لِمَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: ١٨]- الْآيَةَ. كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ إرَادَةُ حَرْثِ الدُّنْيَا ابْتِدَاءً وَبِالذَّاتِ لَا بِالْعَمَلِ سِيَّمَا عَمَلُ الْآخِرَةِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، نَعَمْ، قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ لَكِنْ الْمَطْلُوبُ هُنَا قَطْعِيٌّ وَمِثْلُهُ خِطَابِيٌّ إلَّا أَنْ يُدَّعَى ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْآيَةِ بِالرِّوَايَةِ لَا بِالدِّرَايَةِ أَوْ بِدِرَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمَقَامُ اجْتِهَادِيٌّ فَاعْرِفْ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» حِينَ رَقَى بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ عَلَى لَدِيغٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَبَرِئَ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا فَكَرِهَهُ أَصْحَابُهُ قَائِلِينَ أَخَذْتَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ فَجَوَابُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِي الرُّقْيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لَا يُقَاسُ وَحَمَلَ بَعْضٌ الْأَجْرَ عَلَى الثَّوَابِ وَادَّعَى بَعْضٌ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِأَحَادِيثَ فِي مَنْعِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ رُقْيَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ سَبَبِ الْوُرُودِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا أَقُولُ: الْحَمْلُ عَلَى الثَّوَابِ اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَتَوْبِيخِهِمْ أَخَذْت عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا وَفِيهِ أَيْضًا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ مَحْضَةٍ فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثٍ خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ أَيْضًا الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الضَّيْفِ وَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْمِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ نُقِلَ الرَّدُّ وَالتَّشْنِيعُ عَنْ السُّيُوطِيّ وَأَمَّا رَدُّهُ بِسَنَدٍ غَيْرِ سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute