(وَسَبَبُ الْأَمَلِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ الدَّاءُ الْمُشْكِلُ الشَّدِيدُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَنْ دَوَائِهِ (وَالْغَفْلَةُ عَنْ قُرْبِ الْمَوْتِ) فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْمَوْتِ تَدْعُو إلَى الِانْهِمَاكِ فِي شَهَوَاتِ الدُّنْيَا (وَالِاغْتِرَارُ) مِنْ الْغُرُورِ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ (بِالصِّحَّةِ) الْعَافِيَةِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ (وَالشَّبَابِ) الْحَدَاثَةِ فَضِدُّ الشَّيْبِ
(وَعِلَاجُهُ) أَيْ دَوَاءُ الْأَمَلِ (إزَالَةُ أَسْبَابِهِ) الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ مَا دَامَ سَبَبُ الشَّيْءِ مَوْجُودًا لَا يَزُولُ نَفْسُهُ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْأَثَرِ إنَّمَا هُوَ بِانْتِفَاءِ الْمُؤَثِّرِ (أَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَبِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ وَمَجِيئِهِ بَغْتَةً) فَجْأَةً (عَلَى) حِينِ (غَفْلَةٍ) إذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالْمَرَضِ وَالشَّيْبِ (وَإِنَّ الصِّحَّةَ) وَدَوَامَهَا (وَالشَّبَابَ لَا يَمْنَعُهُ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ الْمَوْتَ (بَلْ مَوْتُ الشَّبَابِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِ الشُّيُوخِ) إذْ مِنْ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ إلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشَيْبٍ وَكُهُولَةٍ وَمِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَرَبِيعٍ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا ذُكِرَ: وَلَكِنَّ الْجَهْلَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَحُبَّ الدُّنْيَا دَعْوَاهُ إلَى طُولِ الْأَمَلِ وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ فَيَظُنُّ أَبَدًا أَنَّهُ يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ تُشَيَّعَ جِنَازَتُهُ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ فِي الْغَيْرِ وَلَمْ يَأْلَفْهُ لِنَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ وَقَعَ مَرَّةً فَلَا يَقَعُ أُخْرَى وَذَلِكَ تَفْصِيلُ قَوْلِهِ (كَمَا أَنَّ مَوْتَ الصِّبْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِهِمَا) الْأَصِحَّاءِ وَالشَّبَابِ فَعَلَى الشَّبَابِ وَالْأَصِحَّاءِ أَنْ يَغْتَنِمَا عَمَلًا بِعِظَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ) : افْعَلْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ قَبْلَ حُصُولِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: (شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك) اغْتَنِمْ الطَّاعَةَ حَالَ قُدْرَتِك قَبْلَ هُجُومِ عَجْزِ الْكِبَرِ عَلَيْك فَتَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْبِ اللَّهِ، (وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك) اغْتَنِمْ حَالَ الصِّحَّةِ فَقَدْ يَمْنَعُ مَانِعٌ كَمَرَضٍ فَتَقْدَمُ الْمَعَادَ بِلَا زَادٍ، (وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك) اغْتَنِمْ التَّصَدُّقَ بِفُضُولِ مَالِكِ قَبْلَ عُرُوضِ حَاجَةٍ تُفْقِرُك فَتَصِيرُ فَقِيرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك) اغْتَنِمْ فَرَاغَك فِي هَذِهِ الدَّارِ قَبْلَ شُغْلِك بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ (وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك) اغْتَنِمْ مَا تَلْقَى نَفْعَهُ بَعْدَ مَوْتِك فَإِنَّ مَنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَفَاتَهُ أَمَلُهُ وَحَقَّ نَدَمُهُ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْبَدَنُ مَرْكَبٌ وَمَنْ ذَهِلَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَالْمَرْكَبِ لَمْ يَتِمَّ سَفَرُهُ وَمَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا أَمْرَ التَّبَتُّلِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ السُّلُوكُ انْتَهَى (وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ يَمُوتُ وَيَبْقَى الْمَرِيضُ) الَّذِي يُتَوَقَّعُ مَوْتُهُ (بَعْدَهُ) الصَّحِيحِ (سِنِينَ) فَلَا يَنْبَغِي لِلصَّحِيحِ أَنْ يَغْتَرَّ بِصِحَّتِهِ وَيَتَسَوَّفَ اقْتِنَاصَ الْقُرُبَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَيُؤَخِّرَ التَّوْبَةَ عَنْ مَا قَارَفَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْخَالِيَةِ وَلْيَعْتَبِرْ بِمَنْ يَمُوتُ شَابًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْأَمْوَاتِ مَاتُوا مَرْضَى (وَمِنْ أَقْوَى عِلَاجِهِ) فَهَذَا بَعْضٌ مِنْ الْأَقْوَى (اسْتِمَاعُ مَا وَرَدَ) عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ (فِي مَدْحِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَذَمِّ طُولِ الْأَمَلِ) .
فَقَالَ الْمُصَنِّف بَيَانًا لِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِهِمَا (مَدْحُ ذِكْرِ الْمَوْتِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا سَيُذْكَرُ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هَذَا مَدْحٌ إلَخْ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا لَفْظِ مِنْ «فَإِنَّهُ» أَيْ ذِكْرَهُ ( «يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ» يُزِيلُهَا بِالْخَوْفِ وَالنَّدَمِ وَالْإِنَابَةِ وَالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى «وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا» يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا لِأَخْطَارِ مُفَارَقَتِهَا وَإِعْلَامِ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَيُؤْذِنُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ لَيْسَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute