للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوحَهُ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ صَارِخٍ وَبَاكٍ وَأَيْضًا قِصَّةٌ أُخْرَى لِحَسْرَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْمَوْتِ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا جَمَعَ أَمْوَالًا وَبَنَى قَصْرًا وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: يَا نَفْسِي انْعَمِي سِنِينَ قَدْ جَمَعْت لَك مَا يَكْفِيك، فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي هَيْئَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ خُلْقَانُ الثِّيَابِ وَفِي عُنُقِهِ مِخْلَاةٌ يُشْبِهُ الْمَسَاكِينَ فَقَرَعَ الْبَابَ بِغَيْرِ حِشْمَةٍ، وَشِدَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَوَثَبَ إلَيْهِ الْغِلْمَانُ قَائِلِينَ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: اُدْعُوا إلَيَّ مَوْلَاكُمْ، قَالُوا وَإِلَى مِثْلِك لَا يَخْرُجُ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: هَلَّا ضَرَبْتُمْ وَرَدَدْتُمْ مِنْ الْبَابِ فَقَرَعَ الْبَابَ أَشَدَّ مِنْ الْأَوَّلِ فَوَثَبَ إلَيْهِ الْحَرَسُ، فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنِّي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِمْ الرُّعْبُ وَوَقَعَ عَلَى مَوْلَاهُمْ الذُّلُّ وَالتَّخَشُّعُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: هَلْ تَأْخُذُ أَحَدَنَا؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اصْنَعْ فِي مَالِكِ وَأَنَا لَسْت بِخَارِجٍ مَا لَمْ أُخْرِجْ نَفْسَك فَأَحْضَرَ مَالَهُ وَقَالَ لَعَنَك اللَّهُ شَغَلْتنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي وَمَنَعْتنِي أَنْ أَتَخَلَّى لِرَبِّي فَأَنْطَقَ اللَّهُ الْمَالَ، فَقَالَ: لِمَ تَسُبُّنِي وَقَدْ كُنْت تَدْخُلُ عَلَى السَّلَاطِينِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتَنْكِحُ الْمُتَنَعِّمَاتِ بِي وَتَجْلِسُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتُنْفِقُنِي فِي سَبِيلِ الشَّرِّ فَلَا أَمْتَنِعُ مِنْك وَلَوْ أَنْفَقْتَنِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ نَفَعْتُك، ثُمَّ قَبَضَ رُوحَهُ «ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا» لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إذْ شَرَفُ الدُّنْيَا إنَّمَا يَكُونُ بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ، وَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ لَهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْبَهَائِمُ لَهُمْ مُسَخَّرُونَ لَا يَشَاءُونَ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ كَائِنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشَاءُونَ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَخْدُمُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَخْدُمُهُمْ كُلُّ مَنْ دُونَ اللَّهِ، وَأَيْنَ مُلُوكُ الدُّنْيَا بِعُشْرِ أَعْشَارِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَعَلَى خَطَرٍ كَثِيرٍ وَخَوْفٍ عَظِيمٍ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَقَدْ سَمِعْت قَوْلَ زَاهِدٍ لِمَلَكٍ: أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي وَمُلْكِي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِك «وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ» بِمَا وَعَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ وَكَرِيمِ الْمَقَامَاتِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَاتِ إلَى رُتْبَةِ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: ٢٠] قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا فَصَّلَ نِسْبَةَ هَذَا الْمُلْكِ بِمُلْكِ الدُّنْيَا وَبِعِبَادَةِ الْعَابِدِ: كَلًّا بَلْ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ نَفْسٍ وَأَلْفُ أَلْفِ رُوحٍ وَأَلْفُ أَلْفِ عُمُرٍ أَكْثَرُ مِنْ عُمُرِ الدُّنْيَا فَبَذَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ الْعَزِيزِ لَكَانَ قَلِيلًا، وَلَئِنْ ظَفِرَ بَعْدَهُ كَانَ غُنْمًا عَظِيمًا، فَتَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ مِنْ نَوْمَةِ الْغَافِلِينَ لَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ هَذَا الْمُلْكِ فِي قَلِيلِ الْعُمُرِ بِقَلِيلِ الْعَمَلِ وَأَنْتَ لَا تَطْلُبُهُ وَلَا تَرْغَبُهُ بَلْ تُؤْثِرُ الْفَانِيَاتِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْبَاقِيَاتِ.

(مُهِمَّةٌ) ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْأَكْيَاسَ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا لِلْمَوْتِ حَقَّ الِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةُ مَا أُعْطِيَ لَهُمْ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَتِهَا بَالِغٌ إلَى عِشْرِينَ، وَكَذَا كَرَامَةُ الْآخِرَةِ وَالدِّينِ، فَالْجُمْلَةُ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْأُولَى: أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَأَكْرِمْ بِعَبْدٍ يَكُونُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ذِكْرِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: شُكْرُهُ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمُهُ وَلَوْ شَكَرَك وَعَظَّمَك مَخْلُوقٌ مِثْلُك لَشَرُفْت بِهِ فَكَيْفَ بِإِلَهِ الْعَالَمِينَ.

وَالثَّالِثَةُ: حُبُّهُ - تَعَالَى - فَلَوْ أَحَبَّك رَئِيسُ مَحَلَّةٍ لَافْتَخَرْت وَانْتَفَعْت بِهِ فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلَهُ يُدَبِّرُ أُمُورَهُ.

وَالْخَامِسَةُ: يَكُونُ كَفِيلَ رِزْقِهِ بِلَا تَعَبٍ.

وَالسَّادِسَةُ: يَكُونُ لَهُ نَصِيرًا كَافِيًا مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِ.

وَالسَّابِعَةُ: يَكُونُ أَنِيسَهُ لَا يَسْتَوْحِشُ بِحَالٍ.

وَالثَّامِنَةُ: عِزُّ النَّفْسِ فَلَا يَلْحَقُهُ ذُلُّ خِدْمَةِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا بَلْ لَا يَرْضَى بِخِدْمَةِ الْمُلُوكِ.

وَالتَّاسِعَةُ: رَفْعُ الْهِمَّةِ فَيُبْرِيهِ مِنْ التَّلَطُّخِ بِقَاذُورَاتِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى زَخَارِفِهَا.

وَالْعَاشِرَةُ: غِنَى الْقَلْبِ فَلَا يَزُولُ فَرَحُ صَدْرِهِ بِقَحْطٍ وَلَا يُفْزِعُهُ عُدْمٌ.

وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: نُورُ الْقَلْبِ فَيَهْتَدِي إلَى حِكَمٍ وَعُلُومٍ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِهَا غَيْرُهُ إلَّا بِجِدٍّ فِي عُمُرٍ مَدِيدٍ.

وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: شَرْحُ الصُّدُورِ

<<  <  ج: ص:  >  >>