للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] أَيْ إرَادَاتٍ مُلَابِسَةً بِأَنْفُسِهِمْ وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: ٥٣] وقَوْله تَعَالَى - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: ٣٩]- الْآيَةَ، إذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا لَمَا صَحَّ هَذِهِ الْبُغْيَةُ وَالتَّوْبِيخُ وَلَمَا صَحَّ لَوْمُ النَّفْسِ وَتَعْيِيرُهَا وَهُوَ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ حَتَّى أَقْسَمَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ - {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: ٢]- وَلَمَا كَانَ لِلْخَتْمِ وَالطَّبْعِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى خَلْقِ الْمَشِيئَةِ وَلَمَا كَانَتْ النَّفْسُ بِالطَّبْعِ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُعِينَةً لَهَا وَلَمَا كَانَ الْغَالِبُ اخْتِيَارَ الشَّرِّ لَوْلَا التَّوْفِيقُ وَالْعِنَايَةُ فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: ٨٣] وَهَذَا مِمَّا أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى.

(قَابِلَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ) أَعْنِي (الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ) فَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَبْرُ اعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَلُّقَ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ لَيْسَ الِاخْتِيَارَ الْجُزْئِيَّ بَلْ مَبْدَأَهُ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا سَبَقَ أَنَّ هُنَا أَرْبَعَةَ أُمُورٍ، الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الصَّالِحَةُ لِتَعَلُّقِ كُلِّ مَقْدُورٍ ثُمَّ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفُ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ عَلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ، ثُمَّ الِاسْتِطَاعَةُ التَّامَّةُ إلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ قَابِلَةٌ قَيْدٌ لِلْإِرَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِهَا الْإِشَارَةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا لَكِنْ يُنَافِي قَوْلَهُ (وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ) إذْ الْكُلِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ أَلْبَتَّةَ وَإِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إلَى الِاخْتِيَارَاتِ الْجُزْئِيَّةِ فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ تَعْقِيدًا يُوجِبُ كَوْنَ قَوْلِهِ وَإِرَادَاتٌ قَلْبِيَّةٌ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِعَدَمِ نَفْعِهِ فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ هِيَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ بَلْ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ فَلَوْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ لَأَوْجَبَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَخْلُوقًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ كَأَصْلِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُتَّجَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إنْ مِنْ اللَّهِ فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ وَإِنْ مِنْ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ خَالِقَهَا فَأَجَابَ أَنَّهُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَيْسَ بِخَالِقٍ إيَّاهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ وَالْخَلْقُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ

فَإِنْ قِيلَ فَيُنَافِي حِينَئِذٍ قَوْلَهُ لِلْعِبَادِ اخْتِيَارَاتٌ إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً قُلْنَا الْمُثْبَتُ الْوُجُودُ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْمَنْفِيُّ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخَارِجَ ظَرْفٌ لِلِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ نَفْسِهِ لَا لِوُجُودِهِ وَالنَّفْيُ رَاجِعٌ إلَى هَذَا الْقَيْدِ لَا الْمُقَيَّدِ يَعْنِي مُطْلَقَ الْوُجُودِ سَالِمٌ عَنْ النَّفْيِ فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا فِي الْأَطْوَلِ لِلْعِصَامِ أَنَّ مِنْ بَيْنِ كَوْنِ الْخَارِجِ طَرَفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ وَكَوْنِهِ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَرْقًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ فِيهِ الْخَارِجُ ظَرْفًا لِنَفْسِ الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَظْرُوفِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زَيْدٌ لَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ ظَرْفًا لِنَفْسِ ثُبُوتِ الْقِيَامِ فَاللَّازِمُ كَوْنُ الْقَائِمِ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ بِثُبُوتِ غَيْرِهِ لَا الثُّبُوتُ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْخَارِجُ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ كَالذِّهْنِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الذِّهْنِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَالْأَعْيَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَفِي عِدَادِهَا فَظَرْفِيَّةُ الْخَارِجِ لِلْوُجُودِ مُسَامَحَةٌ إذْ الْوُجُودُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الْأَعْيَانِ وَمَعْنَى زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَنَّ وُجُودَهُ فِي وُجُودِ الْخَارِجِ وَفِي عِدَادِ وُجُودَاتِهِ، فَلَيْسَ الْخَارِجُ إلَّا ظَرْفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ لَكِنَّهُ إذَا جُعِلَ ظَرْفًا لَهُ حَقِيقَةً اقْتَضَى وُجُودَهُ وَإِذَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ انْتَهَى

ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الصَّرْفِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ مَحْضٌ فَأَمْرٌ نِسْبِيٌّ فَلَا وُجُودَ لَهُ خَارِجِيٌّ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا قُوَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ كَمَا عَرَفْت فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُصَنِّفِ (حَتَّى يَحْتَاجَ) أَيْ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ (إلَى الْخَلْقِ وَيَتَعَلَّقَ) الْخَلْقُ (بِهَا) بِهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>