لَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ أَيْضًا بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكِتَابَتِهِ فَانْدَفَعَ بِذَلِكَ وَسْوَسَةُ اللَّعِينِ وَانْطَبَقَ قَوْلُ السَّلَفِ
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا تَنْدَفِعُ وَلَا يَنْطَبِقُ إذْ عِنْدَهُ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ حَاصِلَةٌ مِنْ اللَّهِ جَبْرًا، فَالْعَبْدُ مُخْتَارٌ فِي أَفْعَالِهِ وَمُضْطَرٌّ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ تَمَّ الْمَرَامُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي مَهَامِّ الْمَقَامِ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِيَارِ إلَخْ قَوْلًا زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَطَوْرًا مُخَالِفًا لِمَا الْتَزَمَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ بَذَلَ الْوُسْعَ فِي تَوْجِيهِهِ كَمَا سَمِعْت مِنْ الْخِطَابِ إذْ أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْأَشْعَرِيِّ لِلْجَوَابِ وَالْإِيرَادِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَوَاقِفِ فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَزِمَ تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَفَى الْوُجُودَ الْخَارِجِيَّ عَنْ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ.
(فَإِذَا تَمَهَّدَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ) فِي دَفْعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ (فَلْنَشْرَعْ فِي الْمَقْصُودِ) مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ السَّادِسِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَوْ الرِّيَاءِ وَالْحَيَاءِ (فَنَقُولُ مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيتُ مَعَ قَوْمٍ فَيَقُومُونَ لِلتَّهَجُّدِ كُلَّ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَقُومُ أَصْلًا، أَوْ يَقُومُ قَلِيلًا مِنْ قِيَامِهِمْ فَإِذَا رَآهُمْ انْبَعَثَ نَشَاطُهُ لِلْمُوَافَقَةِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى مُعْتَادِهِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ يَصُومُ أَهْلُهُ تَطَوُّعًا فَيَنْبَعِثُ لَهُ نَشَاطُهُ فِي الصَّوْمِ) لِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يَرَهُمْ لَمْ يَنْبَعِثْ هَذَا النَّشَاطُ؛ لِأَنَّ الصُّحْبَةَ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةَ سَارِقَةٌ فَإِنَّ الْمُقَارِنَ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي (فَرُبَّمَا يَظُنُّ) مِنْ الْأَوْهَامِ الْقَاصِرَةِ مُطْلَقًا إذْ بِحَسَبِ الْفِكْرَةِ الْأُولَى وَالنَّظْرَةِ الْحَمْقَاءِ (أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ (رِيَاءٌ) مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ بِلَا رُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُهُ بِسَبَبِ رُؤْيَتِهِمْ فَكَانَ مَظَانُّ الرِّيَاءِ لَهُمْ (وَإِنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَهُ تَفْصِيلٌ) يُعْرَفُ بِهِ مَا يَكُونُ رِيَاءً مِمَّا لَا يَكُونُ رِيَاءً وَذَلِكَ قَوْلُهُ.
(فَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ) الْمُنْبَعِثُ عَنْ صُحْبَةِ تِلْكَ الصَّالِحِينَ (لِزَوَالِ الْغَفْلَةِ) عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْمُسْتَحْسَنَةِ (بِمُشَاهَدَةِ الْغَيْرِ) وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ مُذَكِّرَةً لِمَا ذَهِلَ وَمُنَبِّهَةً عَمَّا غَفَلَ (وَقَدْ أَقْبَلُوا) أَيْ الْغَيْرُ بِاعْتِبَارِ الْقَوْمِ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (وَأَعْرَضُوا عَنْ النَّوْمِ) لِلْقِيَامِ وَالتَّهَجُّدِ (وَالْأَكْلِ) لِلصِّيَامِ وَتَجْوِيعِ النَّفْسِ لِلْقَهْرِ فَمُشَاهَدَةُ الْغَيْرِ عِبْرَةٌ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] وَالْعِبْرَةُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَقَدْ قِيلَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» ، وَأَيْضًا فَضْلُ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ مَا بِنِيَّةِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَكَذَا إعْلَانُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَأَمْرُ الْعَوَامّ بِاقْتِدَاءِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ قَوْلًا وَفِعْلًا (أَوْ) كَانَ نَشَاطُهُ (لِانْدِفَاعِ الْعَوَائِقِ) جَمْعُ عَائِقٍ بِمَعْنَى الْمَانِعِ (وَالْأَشْغَالِ الَّتِي فِي بَيْتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ كَالْمُسْتَدْرَكِ إذْ مَبْنَى الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ رُؤْيَةَ عِبَادَةِ الْعَابِدِينَ وَمُوَافَقَتَهُمْ لِذَلِكَ.
وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعِلَّةِ انْدِفَاعَ الْعَوَائِقِ وَنَحْوَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّغَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْعَوَائِقِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِلَا رُؤْيَتِهِمْ لَا يَفْعَلُ تِلْكَ الطَّاعَةَ نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادَرُ تَمَامَ عِلَّةٍ (مِثْلُ تَمَكُّنِهِ عَلَى فِرَاشٍ وَثِيرٍ) لَيِّنٍ نَاعِمٍ (أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ التَّمَتُّعِ) الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ بَلْ لَوَازِمِهِ (بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ الْمُحَادَثَةِ) الْمُكَالَمَةِ (بِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ الِاشْتِغَالِ بِأَوْلَادِهِ) كَتَرْبِيَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ (أَوْ بِحِسَابِ مُعَامَلَتِهِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute