للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْعَمَلُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَقْبَلُهُ وَالْقَلْبُ الْمُشْتَرَكُ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: ٣١] .

قَالَ الْغَزَالِيُّ: قِيلَ لِلْخَوَاصِّ قَدَّمَ ابْنُ أَدْهَمَ فَائِتَهُ قَالَ لَأَنْ أَلْقَى شَيْطَانًا مَارِدًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لِقَائِهِ فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ إذَا لَقِيته أَخَافُ أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهُ فَإِذَا لَقِيت شَيْطَانًا أَمْتَنِعُ مِنْهُ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَقِيَ شَيْخِي الْإِمَامُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ فَتَذَاكَرَا مَلِيًّا فَقَالَ الْإِمَامُ مَا أَظُنُّنِي جَلَسْت مَجْلِسًا أَرْجَى مِنْ هَذَا، فَقَالَ الْعَارِفُ: مَا جَلَسْت مَجْلِسًا أَنَا لَهُ أَخْوَفَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا أَلَسْت تَعْمِدُ إلَيَّ أَحْسَنَ عُلُومِك فَتُظْهِرُهَا لَدَيَّ وَأَنَا كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الرِّيَاءُ، فَبَكَى الْإِمَامُ مَلِيًّا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ.

قَالَ بَعْضٌ وَمِنْ أَدْوِيَةِ الرِّيَاءِ التَّفَكُّرُ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ مَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَهُ وَلَا عَلَى ضَرِّهِ مَا لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا» مِنْ مَقُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إمَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَوْ تَتِمَّةُ مَقُولِ اللَّهِ تَعَالَى «أَعْمَالُكُمْ» اجْعَلُوهَا خَالِصَةً لَهُ وَلَا تَجْعَلُوا فِيهَا شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى «فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ» مِنْ الْأَغْرَاضِ الْمُوجِبَةِ مُشَارَكَةُ الْغَيْرِ «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ» هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَنَهَى عَنْهُ لِمُشَارَكَةِ الْغَيْرِ وَقِيلَ عَادَةُ الْعَرَبِ عِنْدَ إعْطَاءِ الشَّيْءِ لِرِضَاهُ تَعَالَى وَلِقَرَابَةِ فُلَانٍ «فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ» فَقَطْ لَا شَرِكَةَ لَهُ تَعَالَى لِغِنَاهُ لِكَوْنِهِ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ «وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» فَلَا يَقْبَلُ لِعَدَمِ خُلُوصِهِ لَهُ تَعَالَى «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» وَالْآيَاتُ) الْقُرْآنِيَّةُ نَحْوُ {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: ٢٦٤] الْآيَةَ.

وَ {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: ١٤٢] {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: ١٠] {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: ١٠] أَيْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: ٢٠] .

(وَالْأَحَادِيثُ) النَّبَوِيَّةُ نَحْوُ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الرِّيَاءِ إنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ الشِّرْكُ» .

«وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَأَلَ رَجُلٌ فِيمَ النَّجَاةُ قَالَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُرِيدُ بِهَا النَّاسَ» ، وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّ هَذَا لَمْ يُرِدْنِي بِعَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ» .

وَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ» .

«وَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ طَوِيلٍ «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ النَّارَ وَأَهْلَهَا يَعِجُّونَ أَيْ يَتَضَرَّعُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعِجُّ النَّارُ قَالَ مِنْ حَرِّ النَّارِ الَّتِي يُعَذَّبُونَ بِهَا» .

ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ وَفِي هَذِهِ الْفَضَائِحِ بَلَاغٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ (فِي ذَمِّ الرِّيَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هَاهُنَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ (كِفَايَةٌ لِلْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ) إذْ فِيمَا أُلْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُبْقِيَ فَالْعَارِفُ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ (بَلْ الْعَقْلُ) السَّلِيمُ إذَا خَلَى عَنْ شَوَائِبِ الْوَهْمِ وَعَوَائِقِ الْهَوَى وَعَوَارِضِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَطَبْعُهُ أَنْ (يَهْتَدِيَ إلَيْهِ) إلَى رَدَاءَتِهِ وَقُبْحِهِ (بِقَلِيلِ الْتِفَاتٍ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْحُكْمَ وَاضِحٌ.

قَالَ الْمُحَشِّي: لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ يُدْرِكُ قُبْحَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ إدْرَاكُهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَالْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ لَا مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ بَلْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ الْعَقْلُ يَهْتَدِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ (إذْ مَعْنَى الرِّيَاءِ جَعْلُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ لِتَعْظِيمِهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَسِيلَةً إلَى غَيْرِهِمَا) غَيْرِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقَرُّبِ مِمَّا يُرَاعَى بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

(وَفِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْجَعْلِ (قَلْبُ الْمَوْضُوعِ)

<<  <  ج: ص:  >  >>