للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِأَنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى فَوَائِدِ الْإِخْلَاصِ مَحِلُّ تَأَمُّلٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأُولَى وَاخْتِصَاصِ الدِّينِ الْخَالِصِ لَهُ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حك) الْحَاكِمُ.

(عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ» فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ «لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» حَالَانِ لَازِمَانِ أَوَّلُهُمَا لِتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَثَانِيهِمَا لِتَوْحِيدِ الصِّفَاتِ «وَأَقَامَ الصَّلَاةَ» أَتَى بِهَا مُسْتَقِيمَةً بِجَمِيعِ كَمَالَاتِهَا «وَآتَى الزَّكَاةَ» عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِرِضَاهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهِيَ إمَّا بِالْجِنَانِ أَوْ بِالْأَرْكَانِ وَهِيَ إمَّا بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ فَالْمَذْكُورُ هُوَ الْأَصْلُ الْمَتْبُوعُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ.

وَقِيلَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِخْلَاصِ هُوَ كُلُّ الْعَمَلِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لِتَكَرُّرِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَالزَّكَاةَ لِكَوْنِهَا بِالْمَالِ الْمَحْضِ كَانَتَا أَشَقَّ عَلَى النَّفْسِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَامَعَ مَعَهُ غَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ كَالتِّجَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ عِبَادَةً مَطْلُوبَةً بِالتَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ وَالْكَلَامُ فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَهُ عَلَى وَجْهِ تَكْلِيفِهِ نَعَمْ إنَّ مُقْتَضَى التَّجَارِبِ أَنَّهُ كَمْ شَخْصٍ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ سِنِينَ وَأَعْوَامًا يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ فِي أَوَّلِ وُجُوبِهِ مَعَ كَوْنِ الْأَشْقِيَاءِ أَزْيَدَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً «فَارَقَهَا» أَيْ الدُّنْيَا «وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَاضٍ» يَعْنِي يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى حِينَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ عَنْ الْبُرْهَانِ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ وَاحِدٍ فِي طُولِ عُمُرِهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الرِّضَا وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ الْعَفْوَ، فَإِذَا حَصَلَ حَصَلَ الرِّضَا كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكُمَّلِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ وَلِهَذَا حَسَّنَ الْعُلَمَاءُ دُعَاءَ الرِّضَا لِلصَّحَابَةِ كَدُعَاءِ الرَّحْمَةِ لِسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ.

وَفِي الْحَدِيثِ «مَا أُعْطِيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَحَبُّ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى» ثُمَّ إنَّ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ هُوَ الرِّضَا وَالرِّضَا لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ بُعِثَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ هُوَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُذِفَ لِتَعَيُّنِهِ «إلَى الْيَمَنِ» قِيلَ لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقِيلَ يَمِينُ الْكَعْبَةِ وَقِيلَ مِنْ الْيُمْنِ كَمَا أَنَّ الشَّامَ مِنْ الشُّؤْمِ وَقِيلَ وَقِيلَ «وَإِرْسَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْيَمَنِ عَامَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ أَرْكَبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ رَاجِلٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ الْإِرْسَالِ. فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَرْكَبَ وَأَنْتَ رَاجِلٌ فَأَرْجُو الْإِذْنَ حَتَّى أَكُونَ رَاجِلًا قَالَ يَا مُعَاذُ إنِّي أَتَصَوَّرُ كَوْنَ هَذِهِ الْخُطُوَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُوصِيك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْكَلَامِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُحَافَظَةِ حُقُوقِ الْجِيرَانِ وَالْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، يَا مُعَاذُ لَا تَشْتُمْ مُسْلِمًا وَلَا تُكَذِّبْ مَنْ تَكَلَّمَ صَادِقًا وَلَا تُصَدِّقْ مَنْ تَكَلَّمَ كَاذِبًا وَلَا تُخَالِفْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ، يَا مُعَاذُ أَطْلُبُ لَك مَا أَطْلُبُ لِنَفْسِي وَأَكْرَهُ لَك مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، يَا مُعَاذُ عُدْ الْمَرْضَى وَعَجِّلْ قَضَاءَ حَوَائِجِ الضُّعَفَاءِ وَقَرِّبْ الْيَتَامَى وَاجْلِسْ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كُنْ عَدْلًا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى مَلَامَةِ أَحَدٍ فِي طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ يَا مُعَاذُ لَوْ أَمْكَنَ الْمُلَاقَاةُ بَعْدُ لَمْ أُطَوِّلْ الْوَصِيَّةَ» «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ أَخْلِصْ» مِنْ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَاهُ «دِينَك» مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا أَوْ عَمَّا يُفْسِدُهُ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ طَاعَتِك بِتَجَنُّبِ دَوَاعِي الرِّيَاءِ بِأَنْ تَعْبُدَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَقِيَامًا بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَلَا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ «يَكْفِك» هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ

<<  <  ج: ص:  >  >>