للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ وَفِي نُسَخٍ يَكْفِيك بِيَاءٍ بَعْدَ الْفَاءِ وَلَا أَصْلَ لَهَا فِي خَطِّهِ «الْعَمَلُ الْقَلِيلُ» هَكَذَا فِي نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ «الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ» ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إذَا خَلَصَتْ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَأَسْرِهَا نَطَقَتْ الْجَوَارِحُ وَقَامَتْ بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنَازِعَهَا النَّفْسُ وَلَا الْقَلْبُ وَلَا الرُّوحُ فَكَانَ ذَلِكَ صِدْقًا فَيُقْبَلُ الْعَمَلُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ قَلِيلٍ مَقْبُولٍ وَكَثِيرٍ مَرْدُودٍ وَفِي التَّوْرَاةِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ وَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِي فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لَا يَتَّسِعُ فِي إكْثَارِ الطَّاعَةِ بَلْ فِي إخْلَاصِهَا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ أَقَلُّ طَاعَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَقَارَنَهَا الْإِخْلَاصُ يَكُونُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقِيمَةِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَكْثَرُ طَاعَةٍ إذَا أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْآفَةُ لَا قِيمَةَ لَهَا إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَا يَقِلُّ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ وَكَيْفَ يَقِلُّ عَمَلٌ مَقْبُولٌ.

وَعَنْ النَّخَعِيِّ الْعَمَلُ إذَا قُبِلَ لَا يُحْصَى ثَوَابُهُ وَلِهَذَا إنَّمَا وَقَعَ بَصَرُ أُولِي الْبَصَائِرِ مِنْ الْعِبَادِ فِي شَأْنِ الْإِخْلَاصِ وَاهْتَمُّوا بِهِ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ وَقَالُوا الشَّأْنُ فِي الصَّفْوَةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ وَجَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ خَرَزَةٍ، وَأَمَّا مَنْ قَلَّ عَمَلُهُ وَكُلٌّ فِي هَذَا نَظَرُهُ جَهْلُ الْمَعَانِي وَأَغْفَلَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعُيُوبِ وَاشْتَغَلَ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْإِمْسَاكِ فَغَرَّهُ الْعَدَدُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمُخِّ وَمَا يُغْنِي عَدَدُ الْجَوْزِ وَلَا لُبَّ فِيهِ وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَمْ مَبَانِيهَا، وَمَا يَعْقِلُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إلَّا الْعَالِمُونَ إلَى هُنَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ، ثُمَّ إنَّهُ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ كِفَايَةُ قَلِيلِ الْعَمَلِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ ( «عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ طُوبَى» تَأْنِيثُ أَطْيَبَ أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيْشٍ.

وَعَنْ الْكَشَّافِ مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ كَزُلْفَى وَبُشْرَى أَوْ أَصَبْت طَيِّبًا وَخَيْرًا.

وَعَنْ الطِّيبِيِّ فُعْلَى مَنْ الطِّيبِ قَلَبُوا الْيَاءَ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا قِيلَ مَعْنَاهُ أُصِيبُوا خَيْرًا عَلَى الْكِنَايَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا قِيلَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغُرْفَةٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إلَّا السَّوَادَ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فَاكِهَةً وَلَا ثَمَرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ وَرَقَةٌ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ تَنْبُتُ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ، قِيلَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي دَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي دَارِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا غُصْنٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ تُنْبِتُ الْحُلِيَّ، وَالثِّمَارُ مُهْتَدِلَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: مُتَدَلِّيَةٌ عَلَى أَفْوَاهِ الْخَلَائِقِ» .

وَفِي الثَّعْلَبِيِّ يَرْفَعُهُ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهَا تَفَتَّقِي لِعَبْدِي فَتَنْفَتِقُ لَهُ عَنْ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا وَعَنْ الْإِبِلِ بِأَزِمَّتِهَا وَعَمَّا شَاءَ مِنْ الْكِسْوَةِ وَمَا مِنْ الْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا وَغُصْنٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مُتَدَلٍّ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَدَلَّتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا» الْكُلُّ مِنْ فَيْضِ الْقَدِيرِ «لِلْمُخْلِصِينَ» الَّذِينَ أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ شَوَائِبِ الْأَقْذَارِ وَمَحَّضُوا عِبَادَتَهُمْ لِلْمَلِكِ الْغَفَّارِ وَهُمْ الْوَاصِلُونَ لِلْحَبْلِ وَالْبَاذِلُونَ لِلْفَضْلِ وَالْحَاكِمُونَ بِالْعَدْلِ «أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ» لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخْلَصُوا فِي الْمُرَاقَبَةِ وَنَسُوا الْحُظُوظَ كُلَّهَا وَقَطَعُوا النَّظَرَ وَالْقَصْدَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بَلْ هُمْ مِنْهُ فِي حِمَايَةٍ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: عَقَبَةُ الْإِخْلَاصِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَكِنْ بِهَا يُنَالُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا كَثِيرٌ وَقَطْعُهَا شَدِيدٌ وَخَطَرُهَا عَظِيمٌ كَمْ مَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَضَلَّ وَمَنْ سَلَكَهَا فَدَلَّ.

وَالْإِخْلَاصُ إخْلَاصَانِ إخْلَاصُ عَمَلٍ وَإِخْلَاصُ طَلَبِ أَجْرٍ، فَالْأَوَّلُ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُ أَمْرِهِ وَإِجَابَةُ دَعَوْته وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَضِدُّهُ إخْلَاصُ النِّفَاقِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى مَنْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>