أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّنًا فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ مُخْلِصٌ) لِلَّهِ تَعَالَى (مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تُوجَدَ النِّيَّةُ) تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ تَيَقُّنِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ (إذْ هِيَ) أَيْ النِّيَّةُ (الْعَزْمُ الْمُصَمَّمُ) الْقَطْعِيُّ (الْبَاعِثُ) الدَّاعِي عَلَى الْعَمَلِ (فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ) لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ الشَّكِّ وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَنْبَعِثُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ دَوَامِ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ مَشْكُوكًا فِي عَدَمِ الرِّيَاءِ، وَظَاهِرُ الِاجْتِهَادِ وَالْخَوْفِ يُنَافِيهِ (فَإِذَا شَرَعَ عَلَى الْيَقِينِ) يَعْنِي إذَا كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ جَازِمًا بِالْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ (وَمَضَتْ لَحْظَةٌ) زَمَانٌ قَلِيلٌ (يُمْكِنُ فِيهِ الْغَفْلَةُ) غَيْبَةُ الشَّيْءِ عَنْ الْخَاطِرِ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ لَهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ تَرَكَهُ إهْمَالًا وَإِعْرَاضًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: ١] (وَالنِّسْيَانُ) مُشْتَرَكٌ بَيْنَ تَرْكِ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ خِلَافَ الذِّكْرِ وَتَرْكِهِ عَلَى تَعَمُّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: ٢٣٧] (جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ شَائِبَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِجَاهِ (خَفِيَّةٍ مِنْ) بَيَانٌ لِلشَّائِبَةِ (رِيَاءٍ أَوْ عُجْبٍ) يَعْنِي بَعْدَمَا شَرَعَ بِالْإِخْلَاصِ تَتَطَرَّقُ شَائِبَةُ الرِّيَاءِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ إمَّا بِسَبَبِ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّيَقُّظِ وَالتَّدَبُّرِ حَتَّى لَا تَتَطَرَّقَ أَوْ يَدْفَعَ وَلَا يَسْتَمِرَّ الرِّيَاءُ مَثَلًا فَإِنْ قِيلَ النِّسْيَانُ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» إذْ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ فَسَّرُوهُ بِاسْمِ الْخَطَأِ قُلْنَا هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَاطَ سَبَبُهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النِّسْيَانِ مَا فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا فِي الْبَقَاءِ فَقَلَّمَا يُوجَدُ النِّسْيَانُ بَلْ إنْ وُجِدَ يَكُونُ مِنْ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ وَعَدَمِ اهْتِمَامِهِ وَهُوَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ.
وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِمَا أَوَّلًا؛ إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِمَا عَقْلًا فَإِنَّ الذُّنُوبَ كَالسَّمُومِ فَكَمَا أَنَّ تَنَاوُلَهَا مُهْلِكٌ وَإِنْ خَطَأً فَكَذَا تَنَاوُلُ الذُّنُوبِ مُفْضٍ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزِيمَةٌ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالتَّجَاوُزِ فَضْلًا وَكَرَمًا.
(وَأَمَّا أَوْلَوِيَّةُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ أَوْ الْعَكْسُ) ظَاهِرُهُ أَرَادَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الرِّيَاءِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ سَوَاءٌ بِخَوْفِ الرِّيَاءِ أَوْ لَا وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ بَحْثِ حَالِ الرَّجَاءِ أَيْضًا (فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ فِيهَا) أَيْ الْأَوْلَوِيَّةِ.
(قَالَ بَعْضُهُمْ) قِيلَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ خِلَافُهُ حَيْثُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ فَيَعْلَمُ أَوَّلًا الطَّرِيقَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ يَخْلُصُ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخَافُ وَيَحْذَرُ مِنْ الْآفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ ذُو النُّونِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعُلَمَاءَ، وَالْعُلَمَاءُ نِيَامٌ إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ مُغْتَرُّونَ إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ قَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ رَابِعُهَا مِنْ مُخْلِصٍ غَيْرِ خَائِفٍ أَمَا يَنْظُرُ فِي مُعَامَلَاتِهِ تَعَالَى مَعَ أَصْفِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَخِدْمَتِهِ الدَّالَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَقُولَ لِأَكْرَمِ الْخَلْقِ - {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر: ٦٥]- الْآيَاتِ حَتَّى «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» انْتَهَى مُلَخَّصًا.
(يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الرَّجَاءُ) عَلَى الْخَوْفِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَابِدَ الْمَذْكُورَ (اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ دَخَلَ) فِي الْعَمَلِ (بِإِخْلَاصٍ) كَمَا هُوَ الْكَلَامُ فِيهِ (وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ) بِعُرُوضِ نَحْوِ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ (فَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ) الشَّرْعُ نَفْسُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَوَاعِدِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّازِمَةِ لِنَفْسِ الشَّرْعِ أَوْ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ (أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ) .
قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَبْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنَهُ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute