لِأَنَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْحَرَامِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّعْمَةِ) الَّتِي حَسَدْتهَا (صَلَاحٌ لِصَاحِبِهَا بَلْ) فِيهَا (فَسَادٌ) لَهُ (وَمَعْصِيَةٌ فَأَرَدْت زَوَالَهَا عَنْهُ أَوْ عَدَمَ وُصُولِهَا إلَيْهِ) إلَى صَاحِبِهَا (فَذَلِكَ) أَمْرٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ (نَاشِئٌ مِنْ غَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَة أَيْ أَنَفَةٌ وَامْتِنَاعِ (الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى) لِرِضَاهُ تَعَالَى (مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) . الْغَيْرَةُ أَرْبَعٌ: قِسْمٌ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَهُوَ غَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِسْمَانِ وَاجِبَانِ وَهُمَا غَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ وَلِرَبِّهِ، وَقِسْمٌ مَذْمُومٌ وَهُوَ غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى بَعْلِهَا كَذَا قِيلَ (خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ» مِنْ الْغَيْرَةِ أَيْ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إنَّ اللَّه تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ» وَفَسَّرَ أَيْ يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْطَانَهُ وَهَوَاهُ وَجَمْعَ دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَبِيبُهُ وَغَيْرَتُهُ زَجْرٌ عَنْ ذَلِكَ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ وَالْمُؤْمِنُ يَغَارُ انْتَهَى وَقَالَ الصَّدْرُ الْمُنَاوِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ إلَّا قَوْلَهُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ زَادَ مُسْلِمٌ عَلَى الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَشَدُّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَةً رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَانْتِقَامِهِ لِلَّهِ وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَصَحْبُهُ تَابِعُوهُ فِي الْغَيْرَةِ (وَإِنَّ غَيْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى) هِيَ (أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ) ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَشَرَعَ عَلَيْهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقِتْلَاتِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي الْحَدِيثِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْهَلَاكِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ «يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُك لِنَفْسِي وَخَلَقْت كُلَّ شَيْءٍ لَك فَبِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْته لَك عَمَّا خَلَقْتُك لَهُ» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «خَلَقْتُك لِنَفْسِي فَلَا تَلْعَبْ وَتَكَفَّلْت بِرِزْقِك فَلَا تَتْعَبْ» .
(تَنْبِيهٌ)
مِنْ غَيْرَةِ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى الْأَكَابِرِ أَنَّهُمْ إذَا سَاكَنُوا شَيْئًا سِوَاهُ أَوْ لَاحَظُوا غَيْرَهُ شَوَّشَ عَلَيْهِمْ وَامْتَحَنَهُمْ حَتَّى تَصْفُوَ أَسْرَارُهُمْ لَهُ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِين - قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ - أَيْ مَلِكِ مِصْرَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَعْجَبَهُ إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمِرَ بِذَبْحِهِ وَنَظَرَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ إلَى شَابٍّ نَظْرَةً فَإِذَا كَفٌّ مِنْ الْهَوَاءِ قَدْ لَطَمَهُ وَسَقَطَتْ عَيْنُهُ وَسَمِعَ صَوْتًا: لَطْمَةٌ بِنَظْرَةٍ وَإِنْ زِدْت زِدْنَاك وَذَلِكَ لِعُلُوِّ قَدْرِهِمْ عِنْدَهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ) وَاللُّغَةِ (كَرَاهِيَةُ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ) وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى فَلِذَا قَالَ (وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْعُهُ عَبْدَهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ؛ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ (مُشَارَكَةَ) الْعَبْدِ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى (بِأَنْ يَفْعَلَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمُشَارَكَةِ (مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ وَتَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ) كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّعَبُّدِ، إذْ التَّعَبُّدُ إنَّمَا يَكُونُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَانْزِجَارِ النَّهْيِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى فَلَوْ أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى الْفَوَاحِشِ لَكَانَ فَاعِلًا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ فَيَلْزَمُ الْمُشَارَكَةُ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ فَاعِلًا بِلَا تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ إمَّا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ أَوْ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ النَّهْيِ وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُقَيَّدٌ بِالْأَمْرِ فَافْتَرَقَا.
(وَغَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ) عِنْدَ فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ (هَيَجَانٌ) تَحَرُّكٌ وَاضْطِرَابٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute