للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي أَصْلِ الْكَرَامَةِ لَا فِي جَمِيعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ كَمَا نُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ

أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُمْ ... وَلَكِنِّي بِهِمْ أَرْجُو الشَّفَاعَةَ

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حَشَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي زُمْرَتِهِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا وَوَالَاهُمْ حَشَرَهُ اللَّهُ فِيهِمْ» قَالَ فِي شَرْحِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنَ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْجِنَانِ وَمَنْ أَحَبَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي النِّيرَانِ فَالْمُحِبُّ مَعَ مَحْبُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي حَدِيثِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إلَّا جَعَلَهُ مِنْهُمْ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت فَأَعَادَهَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» لَكِنْ يُعَارِضُ مِثْلَهُ قَوْلُ الْحَسَنِ يَا ابْنَ آدَمَ لَا يَغُرَّنَّكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فَإِنَّك لَنْ تَلْحَقَ الْأَبْرَارَ إلَّا بِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُحِبُّونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَلَيْسُوا مَعَهُمْ.

وَعَنْ الْغَزَالِيِّ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَحَبَّةِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ لَيْسَتْ بِمُفِيدَةٍ.

وَعَنْ الْفُضَيْلِ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْكُنَ الْفِرْدَوْسَ وَتُجَاوِرَ الرَّحْمَنَ فِي دَارِهِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ عَمِلْت بِأَيِّ شَهْوَةٍ تَرَكْت بِأَيِّ غَيْظٍ كَظَمْت بِأَيِّ رَحِمٍ وَصَلْت وَأُجِيبَ الْمُحِبُّ لِقَوْمٍ إمَّا مُوَافِقٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَإِمَّا مُخَالِفٌ فِي الْكُلِّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَا يُحْشَرُ مَعَهُمْ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْغَزَالِيُّ كَلَامَ الْحَسَنِ وَإِمَّا مُوَافِقٌ فِي الْبَعْضِ مُخَالِفٌ فِي الْبَعْضِ فَإِنْ خَالَفَهُمْ فِي الْإِيمَانِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ قَطْعًا فَمَحَبَّةُ الْيَهُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَإِنْ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ تَرْجِيحًا لِلْغَيْرِ وَكَسَلًا بِلَا اعْتِنَاءٍ لَهَا فَلَا يَنْفَعُهُ مُجَرَّدُ الْمَحَبَّةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْجِيحًا وَكَسَلًا بَلْ عَجْزٌ مَعَ اجْتِهَادٍ وَتَقْصِيرٌ بِضَرُورَةٍ فَيُرْجَى لُحُوقُهُ بِهِمْ وَحَشْرُهُ مَعَهُمْ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا اشْتَدَّ فَرَحُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ لَعَلَّ تَحْقِيقَهُ شَرْطِيَّةُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُحِبُّ جِنْسَ عَمَلِ الْمَحْبُوبِينَ حَسْبَمَا اسْتَطَاعَ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْثَالِ أَعْمَالِهِمْ أَعْيَانًا وَأَفْرَادًا فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ (إنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَحَبَّةِ مِنْهَا) لَهُمْ لِصَلَاحِهِمْ (بِدُونِ الِاتِّبَاعِ) فِي الْجَمِيعِ (يُعْتَدَّ بِهَا) أَيْ بِالْمَحَبَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ أَمْرٌ مُهِمٌّ رَجَاءَ اللِّحَاقِ بِهِمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا قَالَ شَاءَ الْكَرْمَانِيُّ مَا تَعَبَّدَ مُتَعَبِّدٌ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّحَبُّبِ إلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مَنْ صَحِبَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِدْقٍ أَلْهَاهُ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَمِيعِ أَشْغَالِهِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَشُمَّ رَائِحَةَ الِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ أَبَدًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ قَالَ فَقُلْت يَا سَيِّدِي أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ وُقُوفُك بَيْنَ يَدَيْ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَحَلْبِ شَاةٍ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ إرَبًا إرَبًا فَقُلْت حَيًّا وَمَيِّتًا؟ فَقَالَ نَعَمْ.

ثُمَّ أَقُولُ تَفْصِيلًا آخَرَ لَعَلَّك لَا تَسْأَمُ وَلَا تَمَلُّ لِنَفَاسَتِهِ وَعِزَّةِ مَطْلُوبِهِ إذْ إنَّ الْمَحَبَّةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِشَيْءٍ مَا لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْغَيْرِ كَالدَّرَاهِمِ فَإِنْ أُرِيدَ التَّوَسُّلُ إلَى مَذْمُومٍ فَمَذْمُومٌ وَإِنْ إلَى مَمْدُوحٍ فَمَمْدُوحٌ وَإِلَى مُبَاحٍ فَمُبَاحٌ إذْ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحَبَّةُ اللَّهِ قَصْدًا وَأَمَّا لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ لِحَظٍّ أُخْرَوِيٍّ كَمَنْ يُحِبُّ شَيْخَهُ وَأُسْتَاذَهُ لِتَوَسُّلِهِمَا إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا الْفَوْزُ وَكَذَا مَحَبَّةُ الْأُسْتَاذِ تِلْمِيذَهُ وَكَذَا مَحَبَّةُ الْمَالِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَيْهِ تَعَالَى أَوْ لِيَتَفَرَّغَ بِهِ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَكَذَا مَحَبَّةُ امْرَأَتِهِ الصَّالِحَةِ لِيَتَحَصَّنَ بِهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ مُحِبٌّ لِلَّهِ وَإِمَّا لِذَاتِهِ يَعْنِي يُحِبُّ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ لَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَمْرٍ وَرَاءَ ذَاتِهِ وَهَذَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْحُبِّ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ الْمَحْبُوبِ إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ وَمُنَاسَبَاتِهِ حَتَّى مَنْزِلَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ وَجِيرَانِهِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ أَحَبَّ كَلْبَهُ فَكَذَا إذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِهِ كَمَنْ أَحَبَّ خَطَّ حَبِيبِهِ وَصَنْعَتِهِ.

وَكَذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَمَلَ إلَيْهِ بَاكُورَةً مَسَحَ بِهَا عَيْنَهُ وَأَكْرَمَهَا وَقَالَ إنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِرَبِّهَا وَإِنْ كَانَ الْحُبُّ لَحَظٍّ يَنَالُ مِنْ الْمَحْبُوبِ كَحُبِّ الْمَوْتَى مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ لِيَنَالَ مِنْهُمْ مَا يَنَالُ حَالًا وَمَآلًا فَحُبٌّ لِلَّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>