قَسَا قَلْبُهُ وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَهُوَ وَإِنْ تَعَبَّدَ فَقَلْبُهُ هَائِجٌ بِاشْتِغَالِ الدُّنْيَا مُتَّكِلٌ عَلَى عَقْلِهِ غَيْرُ مُعْتَمِدٍ عَلَى رَبِّهِ لَا يَتَأَثَّرُ بِقَوَارِعِ التَّخْوِيفِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِزَوَاجِرِ التَّذْكِيرِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا عِبَادَةَ إلَّا بِتَفَكُّرٍ كَمَا فِي الْفَيْضِ {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: ١٩١] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ قَائِدُ الْإِنْسَانِ إلَى الْخَيْرِ وَدَلِيلُهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا مَقْصُودًا بِهِ الْفِرَارُ مِنْ الْخَلْقِ إلَى الْخَالِقِ (وَ) مِنْهَا (الصِّدْقُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٩] (وَهُوَ فِي سَبْعٍ فِي الْقَوْلِ ضِدِّ الْكَذِبِ) الَّذِي هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ حُكْمِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ (وَفِي النِّيَّةِ الْإِخْلَاصُ) الَّذِي هُوَ تَجْرِيدُ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَفِي الْوَعْدِ وَفِي الْعَزْمِ) عَلَى وَفَاءِ الْعَهْدِ (قُوَّتُهُمَا) أَيْ الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ (وَخُلُوُّهُمَا مِنْ الضَّعْفِ وَالتَّرَدُّدِ فِيهِ وَفِي الْوَفَاءِ تَحْقِيقُهُ وَإِنْجَازُهُ عَلَى وَفْقِ الْوَعْدِ) وَوَفْقِ (الْعَزْمِ) مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَنَقْضٍ (وَفِي الْعَمَلِ مُوَافَقَتُهُ لِلْبَاطِنِ) بِلَا رِيَاءٍ (وَعَدَمَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ وَفِي نَحْوِ الْخَوْفِ) كَالْفَزَعِ وَالْهَيْبَةِ (قُوَّتُهُ وَكَثْرَتُهُ) وَالصِّدِّيقُ بِكَسْرِ أَوَّلَيْهِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِي.
(مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ جَمِيعًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَالْأَوَّلُ أَعْنِي الْقَوْلَ يَدْخُلُ فِيهِ وَفَاءُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ تَفْهِيمُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَلَحَ لِغَيْرِهِ نَعَمْ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ فِي بَابِ تَأْدِيبِ الصَّبِيَّانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْحَذَرِ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْحَرْبِ وَيَلْزَمُ مُرَاعَاةُ مَا فِي لَفْظِهِ فَلَوْ قَالَ عِنْدَ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: ٧٩] الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ تَعَالَى وَكَذَا لَوْ قَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرِكَ أَحَدًا فِي عِبَادَتِهِ وَلَوْ نَحْوَ الرِّيَاءِ وَالثَّانِي هُوَ أَيْ الْإِخْلَاصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَالثَّالِثُ كَأَنْ تَقُولُ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا تَصَدَّقْت بِجَمِيعِهِ أَوْ شَطْرِهِ أَوْ إنْ أَعْطَانِي وِلَايَةً عَدَلْت فَصِدْقُهَا عَدَمُ التَّرَدُّدِ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ بَلْ يَجْزِمُ فَإِنْ بِمَيْلٍ وَضَعْفٍ فَلَا يَصْدُقُ عَزْمُهُ وَالرَّابِعُ أَيْ الْوَفَاءُ فَالنَّفْسُ قَدْ تَسْخُو فِي الْعَزْمِ وَالْوَعْدِ لِعَدَمِ مُؤْنَتِهِ وَعِنْدَ الْإِنْجَازِ تُخْلِفُهُ فَلَا تَصْدُقُ وَالْخَامِسُ أَيْ الْعَمَلُ بِأَنْ لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ وَالسَّادِسُ أَيْ الْخَوْفُ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَالزُّهْدُ وَالرِّضَا وَالْحُبُّ وَالتَّوَكُّلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدْقِ وَأَعَزُّهَا فَإِذَا غَلَبَ الشَّيْءُ وَتَمَّ يُسَمَّى صَاحِبُهُ صَادِقًا فِيهِ كَمَنْ يَخَافُ مِنْ النَّارِ صِدْقُهُ اصْفِرَارُ لَوْنِهِ وَتَغَيُّرُ عَيْشِهِ وَتَبْدِيلُ أُنْسِهِ وَحْشَةً وَرَاحَتِهِ تَعَبًا فَالصَّادِقُ فِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ عَزِيزٌ جِدًّا ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ أُمُورٍ دُونَ أُخَرَ فَإِنْ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَيُسَمَّى صِدِّيقًا وَهُوَ نَادِرٌ جِدًّا.
(وَ) مِنْهَا (الْمُرَابَطَةُ) الَّتِي هِيَ مُلَازَمَةُ الْخَيْرِ وَالْعُكُوفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ (وَهِيَ رَبْطُ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَمْسٍ الْمُشَارَطَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوَّلًا بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَتَرْتِيبِ الْوَظَائِفِ وَالْأَوْرَادِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَقَدْ يُوقِعُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِعِرْفَانِهِ أَنَّ الْوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ لَوْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالطَّاعَاتِ سَيَقْطَعُك بِالْفَوَاتِ (ثُمَّ الْمُرَاقَبَةُ بِمُرَاعَاةِ الْقَلْبِ لِلرَّقِيبِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ نَاظِرًا عَلَى عِبَادِهِ (بِاسْتِدَامَةِ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ الرَّبِّ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ) إلَى الْقَلْبِ (فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ هَلْ يَفِي بِالْمَشْرُوطِ عَلَى وَجْهِهِ) اللَّائِقِ (أَمْ يَزِيغُ) يَمِيلُ إلَى الْبَاطِلِ (عَنْهُ) بِعَدَمِ الْإِتْيَانِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ اعْلَمْ أَنَّ مُرَاقَبَةَ الصِّدِّيقِينَ هِيَ مُرَاقَبَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ ذِي الْجَلَالِ وَيَصِيرَ مُنْكَسِرًا تَحْتَ الْهَيْبَةِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ مُتَّسَعٌ لِلْغَيْرِ أَصْلًا وَتَبْقَى جَوَارِحُهُ مُتَعَطِّلَةً عَنْ التَّلَفُّتِ إلَى الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَبِّرٍ فِي حِفْظِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ وَمِثْلُهُ يَغْفُلُ عَنْ الْخَلْقِ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُ مَنْ عِنْدَهُ وَعَيْنُهُ نَاظِرٌ إلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَيْسَ بِهِ صَمَمٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّ مُرَاقَبَةَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَهُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ مُطَالَعَةُ جَمَالِهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَكِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute