للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلَيْك بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَيْ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى فَدَخَلَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى سِيَّمَا تَخْلِيَةُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْجِهَادُ الْأَصْغَرُ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْمُجَاهَدَةَ مَعَ النَّفْسِ الْجِهَادَ الْأَكْبَرَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِقَوْلِهِ «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» مِنْ الْمُبَارِقِ «فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ» تَعَبُّدُهُمْ الْمَخْصُوصُ بِهِمْ «وَعَلَيْك بِذِكْرِ اللَّهِ» تَعَالَى مُطْلَقًا مَا يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ مَآلًا لِحَدِيثِ «مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِلِسَانِهِ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَهُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ، وَأَيْضًا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَثُرَتْ» الْحَدِيثَ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ طَاعَةُ اللَّهِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَتَجَنُّبِ نَهْيِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ هَذَا يُعْلِمُك بِأَنَّ أَصْلَ الذِّكْرِ إجَابَةُ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ اللَّوَازِمُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ فِي مِثْلِهِ يَتَبَادَرُ مَا بِاللِّسَانِ سِيَّمَا نَحْوُ التَّهْلِيلِ «وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهَا» أَيْ التِّلَاوَةَ «نُورٌ لَك فِي الْأَرْضِ» لِمَا فِي التِّلَاوَةِ مِنْ جَلَاءِ الصُّدُورِ أَوْ يَهْدِيَك إلَى الْحَقِّ كَالنُّورِ «وَذِكْرٌ لَك فِي السَّمَاءِ» أَيْ سَبَبُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ «وَاخْزُنْ لِسَانَك» أَيْ احْبِسْهُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالِاسْتِشْهَادُ مِنْ الْحَدِيثِ «إلَّا مِنْ خَيْرٍ» تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ كَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ «فَإِنَّك بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ» لِأَنَّ اللِّسَانَ أَعْظَمُ آلَةِ الشَّيْطَانِ فِي اسْتِغْوَاءِ الْإِنْسَانِ فَمَنْ أَطْلَقَ عَذَّبَهُ اللِّسَانُ وَأَهْمَلَهُ مُرْخِيَّ الْعِنَانِ فِي كُلِّ مَيْدَانٍ سَاقَهُ إلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ وَلَا يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يُنَجِّي مِنْ شَرِّ اللِّسَانِ إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ فَلَا يُطْلَقُ إلَّا فِيمَا يُنْتَفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَكُفُّ عَنْ كُلِّ مَا يَخْشَى غَائِلَتَهُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ.

ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَلَاءِ هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ الْهَيْتَمِيُّ وَفِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ وُثِّقَ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ (طِبّ. عَنْ أَبِي وَائِلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ أَكْثَرُ خَطَإِ ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ» لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْأَعْضَاءِ عَمَلًا وَأَصْغَرُهَا جِرْمًا وَأَعْظَمُهَا زَلَلًا لِأَنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ عَظِيمٌ جُرْمُهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ يَشْغَلُهُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعٌ أُخْرَوِيٌّ لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ وَجَازَفَ وَلَمْ يَتَحَرَّ فَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .

وَفِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ يُخِلُّ بِمَا يَعْنِيهِ» وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّهُ الْقَوْمُ مِنْ الْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي التَّدَاوِي مِنْهَا مِنْ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ وَعِلَاجُهُ أَنْ تَسْتَحْضِرَ أَنَّ وَقْتَك أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك فَتَشْغَلَهُ بِأَعَزِّهَا وَهُوَ الذِّكْرُ وَفِي ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَا تُكَفِّرُ عَنْ صَاحِبِهَا بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ قَالَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ ارْتَقَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّفَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ الشَّرِّ تَسْلَمْ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ ثُمَّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>