(دَفْعُ ظُلْمِ الظَّالِمِ) كَمَنْ أَخْفَى مُسْلِمًا عَنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ ظُلْمَهُ أَوْ أَخْفَى مَالَهُ وَسُئِلَ عَنْهُ وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ وَكَذَا نَظَائِرُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٌ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ وَإِلَّا جَازَ الْكَذِبُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا فَالْكَذِبُ مُبَاحٌ وَإِنْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ وَيُؤَيِّدُهُ قَاعِدَةُ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ يَشْكُلُ عَلَى الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَقَوْلُهُمْ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْقَوِيُّ الْكُلُّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْجُزْئِيِّ وَقَوْلُهُمْ تُرَجَّحُ الْمَفْسَدَةُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الضَّعِيفَةِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا إذْ ضَرَرُ عَدَمِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَيْسَ بِضَرَرٍ مُعْتَدٍّ بِهِ وَالْكَذِبُ كَبِيرَةٌ فَانْظُرْ (وَإِحْيَاءُ الْحَقِّ) وَأَيْضًا نُقِلَ عَنْ الرِّيَاضِ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ خَبَرُ «لَيْسَ الْكَذَّابُ» أَيْ لَيْسَ يَأْثَمُ فِي الْكَذِبِ «الَّذِي يُصْلِحُ» بِضَمِّ الْيَاءِ «بَيْنَ النَّاسِ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ يُعَارِضُهُ خَبَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى الْكَذَّابَ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ بِالْكُلَّابِ مِنْ حَدِيدٍ قُلْنَا الْعَذَابُ عَلَى الْكَذَّابِ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُؤَدِّي إلَى خَيْرٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَيُنْمِي أَيْ يُبْلِغُ خَيْرًا وَيَقُولُ خَيْرًا أَيْ يُخْبِرُ بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيَسْكُتُ عَنْ عَمَلِهِ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ مَحْمُودٌ بَلْ قَدْ يُنْدَبُ بَلْ قَدْ يَجِبُ ثُمَّ قَالَ وَرُخِّصَ فِي الْيَسِيرِ مِنْ الْفَسَادِ لِمَا يُؤْمَلُ فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ وَكُلُّ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ إيصَالُهُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ جَمِيعًا فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْكَذِبِ إنَّمَا هِيَ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَنْ لَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلِهَذَا قِيلَ الْكَذِبُ مُبَاحٌ لِإِحْيَاءِ حَقِّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْكَذِبُ إثْمٌ كُلُّهُ إلَّا مَا نُفِعَ بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ غِشٌّ وَخِيَانَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ الْكَذِبُ أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدَّهَا نَفْعًا وَقُبْحُ الْكَذِبِ مَشْهُورٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى حُرْمَتِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ هُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ وَإِذَا عُرِفَ الْإِنْسَانُ بِالْكَذِبِ سَقَطَتْ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ وَازْدَرَتْهُ الْعُيُونُ وَاحْتَقَرَتْهُ النُّفُوسُ قَالَ وَمِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا إثْمَ فِيهِ مَا اُعْتِيدَ فِي الْمُبَالَغَةِ كَجِئْتُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَمِمَّا اُعْتِيدَ فِي الْكَذِبِ أَنْ يَقُولَ لَا أَشْتَهِي الطَّعَامَ عِنْدَ تَكْلِيفِ الْأَكْلِ فَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحَرَامٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَقَالَ الرَّاغِبُ الْكَذِبُ عَارٌ لَازِمٌ وَذُلٌّ دَائِمٌ فَلَا يَتَرَخَّصُ فِي أَدْنَى كَذِبٍ بِشَيْءٍ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ عَسُرَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ كُلُّ ذَنْبٍ يُرْجَى تَرْكُهُ بِتَوْبَتِهِ إلَّا الْكَذِبَ فَكَمْ رَأَيْنَا شَارِبَ خَمْرٍ أَقْلَعَ وَلِصًّا نَزَعَ وَلَمْ نَرَ كَذَّابًا رَجَعَ وَعُوتِبَ كَذَّابٌ فِي كَذِبِهِ فَقَالَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ بِهِ وَتَطَعَّمْتَ حَلَاوَتَهُ مَا صَبَرْتَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ انْتَهَى (كَمَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ) لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا وَجَدِّهَا (تَقُولُ) لِزَوْجِهَا (فِي النَّهَارِ بَلَغْتُ الْآنَ وَفَسَخْت النِّكَاحَ مَعَ أَنَّهَا بَلَغَتْ بِاللَّيْلِ) فَأُبِيحَ لِإِحْيَاءِ حَقِّهَا وَفِي الدُّرَرِ وَإِنْ رَأَتْهُ بِاللَّيْلِ تَخْتَارُ بِلِسَانِهَا فَتَقُولُ فَسَخْت نِكَاحِي تُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقُولُ رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ
(قِيلَ وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ الْمُبَاحِ (الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ الْكَاذِبَانِ لِلصَّبِيِّ إذْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَكْتَبِ) وَأَعْرَضَ فَيَجُوزُ لِمَصْلَحَةِ تَعَلُّمِهِ قِيلَ فِيهِ نَوْعُ ضَعْفٍ لِإِمْكَانِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ كَالضَّرْبِ وَلِذَا قَالَ قِيلَ وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ جَوَازَ الضَّرْبِ مَحَلُّ بَيَانٍ خُصُوصًا فِيمَا دُونَ عَشْرِ سِنِينَ وَلَعَلَّ لِهَذَا قَالَ نَوْعُ ضَعْفٍ أَقُولُ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْمِثَالِ لَيْسَ بِحَسَنٍ نَعَمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِمْكَانِ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا أُبِيحَ فِيهِ الْكَذِبُ.
(وَ) مِنْهُ (الْإِنْكَارُ لِسِرِّ الْغَيْرِ) لِئَلَّا يُفْشِيَ سِرَّهُ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ لِأَنَّ صُدُورَ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ (وَ) مِنْهُ إنْكَارُ (مَعْصِيَةِ نَفْسِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute