وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ فُلَانٌ لَا يَعِظُ وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ قَالَ وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ رَدُّ الشَّيْطَانَ لَوْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ.
وَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَى الِاجْتِنَابِ لَرُفِعَ هَذَا الْبَابُ وَتَعَطَّلَ وَانْسَدَّ بَابُ النَّصِيحَةِ الَّتِي حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنْ قِيلَ إطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٣] وَقَوْلِهِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤] الْآيَةَ.
قُلْنَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْآيَةُ نَاهِيَةٌ عَلَى مَنْ يَعِظُ غَيْرَهُ وَلَا يَعِظُ نَفْسَهُ سُوءَ صَنِيعِهِ وَخُبْثَ نَفْسِهِ وَإِنْ فَعَلَهُ فِعْلَ الْجَاهِلِ بِالشَّرْعِ أَوْ الْأَحْمَقِ الْخَالِي عَنْ الْعَقْلِ فَإِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا عِزُّ شَكِيمَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَثُّ الْوَاعِظِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ لِيَقُومَ فَيُقِيمَ بِهِ لَا مَنْعُ الْفَاسِقِ عَنْ الْوَعْظِ فَإِنَّ الْإِخْلَالَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا لَا يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِالْآخَرِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمُنْكَرِ وَلَمْ يَنْهَ الْغَيْرَ يَكُونُ إثْمُهُ مُضَاعَفًا إثْمَ الْمُنْكَرِ وَإِثْمَ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِي النِّصَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي السِّرِّ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْقَبُولِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي السِّرِّ فَبِالْعَلَانِيَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازَ دِينِهِ لَا حَمِيَّةَ نَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِشَجَرَةٍ تُعْبَدُ فَذَهَبَ إلَى بَيْتِهِ فَأَخَذَ فَأْسَهُ وَرَكِبَ حِمَارَهُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الشَّجَرَةِ لِيَقْطَعَهَا فَلَقِيَهُ إبْلِيسُ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ فَقَالَ لَهُ إلَى أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ رَأَيْت شَجَرَةً تُعْبَدُ فَأُرِيدُ قَطْعَهَا فَقَالَ إبْلِيسُ دَعْهَا فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ فَلَمْ يَرْجِعْ فَقَالَ إبْلِيسُ دَعْهَا وَأَنَا أُعْطِيك كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَتَرْفَعُ طَرَفَ فِرَاشِك فَتَجِدُهَا فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَوَجَدَ ذَلِكَ أَيَّامًا ثُمَّ لَمْ يَجِدْ فَلَمَّا يَئِسَ أَخَذَ الْفَأْسَ وَذَهَبَ جَانِبَ الشَّجَرَةِ فَلَقِيَهُ إبْلِيسُ فَقَالَ لَا تُطِيقُ الْقَطْعَ الْآنَ أَمَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَكَانَ خُرُوجُك غَضَبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا رَدُّوكَ وَأَمَّا الْآنَ فَلِعَدَمِ وُجْدَانِك الدِّرْهَمَ وَلَئِنْ تَقَدَّمْت لَيُدَقَّنَّ عُنُقُكَ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَتَرَكَ الشَّجَرَةَ.
(زطب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُهْلَكُ الْقَرْيَةُ وَفِيهَا الصَّالِحُونَ؟» وَمُقْتَضَى الصَّلَاحِ الْإِحْسَانُ فَضْلًا عَنْ الْإِهْلَاكِ «قَالَ نَعَمْ قِيلَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِتَهَاوُنِهِمْ» «وَسُكُوتِهِمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ وَالتَّغْيِيرِ فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ هَذَا التَّهَاوُنُ وَالسُّكُوتُ مُوجِبًا لِلْهَلَاكِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ مَعَ الصَّلَاحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute