ولما كان الإنسان محتاجا إلى غذاء يدخل من خارج خلق له الفم، ولما كانت الحاجة إلى الغذاء وقتا بعد وقت خلق الفم بحيث ينفتح مرة وينطبق أخرى بخلاف المنخرين فإنهما خلقتا مفتوحتين لدوام الاستنشاق، ثم لم يخلق مجرى الفم مستقيم التجويف كقصبة الرئة مثلا بحيث لا يصلح إلا لمرور الغذاء، بل جعل فيه فضاء يجتمع الطعام فيه حتى يصير مستعدّا للبلع، ولتختبره آلة الذوق، فإن كان صالحا طحنته آلة الطحن وإلا مجته، وجعل عليه الشفتان يطبقانه لئلا تجف رطوبته بالهواء الواصل إليه من خارج كما في سائر الأعضاء؛ لأن هذه الرطوبة معينة على بلع الطعام وتحريك اللسان للكلام. ومن منافعه كونه مدخلا للهواء إلى قصبة الرئة، ولما كان بقاء الإنسان لا يمكن إلا بالتنفس اقتضت عناية البارئ تعالى للتنفس طريقتين: أحدهما:
بالخياشيم، والآخر: بالفم، حتى لو تعطل أحد الطريقين لآفة أو مرض يحصل التنفس بالطريق الآخر، وأما اللسان فإنه مؤلف من لحم رخو وتحته فوهتان يخرج منهما اللعاب يفيض إلى الغدد الموضوعة عند أصله إلى جميع أطرف الفم وجعل أصله أعظم للثبات وأطرافه أدق لتسهيل حركته عند الكلام (١) وإدارة الطعام وتنقية أصول الأسنان عن بقية المأكول، وأما الأسنان فإنها خلقت من جوهر آخر مغاير لجوهر سائر العظام وقياسها بالنسبة إلى سائر العظام جوهر الذكر المسقى إلى الأنيث، وجعل مقاديمها حادة للعض والقطع، والأنياب غليظة حادة الرؤوس للنهش، والطواحن عريضة للطحن، وجعل أسناخ الأضراس العليا أكثر عددا من أسناخ الأضراس السفلى، وذلك لأن العليا معلقة فتحتاج إلى زيادة، وأما السفلى فإنها موضوعة على القرار فيكفيها أدنى وثاق وثبات كالسندان.
[فصل: في اللحيين]
ولما وجب أن يكون الفم متحركا للمضغ والكلام، ومفتوحا لاستنشاق الهواء في بعض الأوقات اقتضى التدبير الإلهي تحريك الفك الأسفل؛ لأن تحريكه أسهل من تحريك الفك الأعلى وأنفع. وأما سهولته فلأنه أصغر حجما وأطوع حركة، وأما نفعه فلأن الفك الأعلى متصل بالرأس ومواضع الحواس وكان يتحرك بحركته الدماغ والحواس، وذلك فيه من الفساد ما لا يخفى، فخلق الفك الأعلى ثابتا، والأسفل متحركا، وجعل في عظم الرأس عند الصدغين ثقبتين واسعتين علق فيهما الفك الأسفل تعليقا سلسا ليسهل انطباقه وانفتاحه.
(١) ما أعظم الخالق ﵎، فإن خلقته لأعظم دليل على قدرته وعلمه ﷾ فما وجدت صعوبة إلا ولها حلا وما وجد داء إلى وله دواء فتبارك الله أحسن الخالقين.