زعموا أن الرطوبات المختفية تحت الأرض تسخن في الشتاء وتبرد في الصيف؛ لأن الحرارة والبرودة ضدان فلا يجتمعان في مكان واحد، فإذا جاء الشتاء برد الجو وفرت الحرارة إلى باطن الأرض، فمنها مواضع دهنية فاكتسبت الرطوبات المنصبة إلى تلك المواضع بواسطة الحرارة منها دهنية، فإذا أصابها نسيم الهواء أو برودة الجو غلظت، فربما انعقدت وربما بقيت على معادنها، فتصير كبريتا أو زئبقا أو قيرا أو نفطا أو ما شابهه، وذلك بحسب اختلاف البقاع وتغيرات الأهوية بحرارة المعدن ونضجه إياها وتصفيتها مرة بعد أخرى.
فإذا اختلط الكبريت والزئبق مرة أخرى وتمازجا والتأثير بحالة تركب من امتزاجهما الجواهر المعدنية بأنواعها كما ذكرناه قبل، فلا نعيده، ونذكر تولد كل واحد منها مع بعض خواصها، والله الموفق.
(وأما الزئبق) فإنه يتولد من أجزاء مائية اختلطت بأجزاء أرضية لطيفة كبريتية اختلاطا شديدا، لا يتميز أحدهما عن الآخر، وعليه غشاء ترابي، فإذا اتصلت إحدى القطعتين بالأخرى انفتح الغشاء وسارت القطعتان واحدة والغشاء محيط بهما، وأما بياضه فسبب صفاء ذلك الماء، وهو التراب الكبريتي الذي ذكرناه.
قال أرسطو: الزئبق فضة إلاّ أنه دخل عليه آفة في معدنه كما ذكرنا آفات الرصاص أنها آفات الزئبق أيضا، ومن طلى بدنه بالزئبق قتل عنه القمل والصئبان والقراد، وتراب الزئبق يقتل الفأر إذا جعل في طعام أو نحوه، ومن دنا من الزئبق إذا مسّته النار أفلجه، ودخانه يحدث أسقاما رديئة، مثل: الرعدة والفالج وذهاب السمع وصفرة اللون والرعشة في الأعضاء والبخر في الفم ويبس الدماغ، ومن دخانه تهرب الحيات والهوام جميعا، ومن أقام عنده مات، وإن طرح من الزئبق في تنور الخباز سقط جميع خبزه في النار، والمسافر يتقلد بقلادة من صوف ملطخة بالزئبق المقتول، فإنه لا يتولد في ثوبه قمل أصلا.
(وأما الكبريت) فإنه يتولد من أجزاء مائية وهوائية وأرضية، إذا اشتد اختلط بعضها بالبعض؛ بسبب حرارة قوية ونضج تام حتى يصير مثل الدهن، ثم ينعقد بسبب برودة ضربته.