قالوا: إن الفضلة الباقية من الغذاء إذا أثرت فيها الحرارة بحدتها وأخرجتها من الجلد فما كان منها لطيفا تحلل تحليلا خفيفا على الحس، وما كان غليظا تحلل في المسام وتكاثف فيحدث منه الشعر، فجعل بعضها زينة ووقاية كشعر الرأس فإنه غطاء وزينة، وكالحاجب فإنه يمنع ما ينحدر من الجبهة إلى العين وهو زينة ينظر أيضا من ورائها عند هبوب الرياح وتنثرها القذي وفيه من الزينة ما لا يخفى، ومنها ما جعل للزينة كالشارب واللحية، فإنهما يفيدان الجمال والبهاء ومن لا لحية له لا بهاء له، ومنها ما ينبت في المواضع الحارة الرطبة كالإبط والعانة وهو كالعشب الذي ينبت في القراح ذات الندى (١) وإن لم يقصد إنباته فإنه فضلة يندفع إليها الإنسان بخلاف سائر الحيوان فإن شعورها لباسها وزينتها.
[النوع الثاني: العنق]
ولما كان الرأس معدن الحواس وكان بعض الحواس كالسمع والبصر يحتاج إلى أن يكون في أعلى الأماكن اقتضى التدبير الإلهي أن يكون الرأس على عضو طالع من البدن وهو العنق، ثم جعل هذا العضو متحركا إلى جهات مختلفة بعضلات تمده إلى فوق وأسفل وقدام وخلف ويمين ويسار وموربا ومستدبرا؛ لتعم منفعته الحواس، وإنها في جهة واحدة فكأنها في جهات، وجعلت قصبة الرئة والمريء فيها وهي سبع فقرات، ولما كانت الفقرات العنقية محمولة على ما تحتها من الفقرات وجب أن تكون أصغر من الحامل، ولما كان مخرج أول النخاع وجب أن يكون ثقبها أعظم من ثقب فقرات الصلب، ولما كان جرمها رقيقا لا يحتمل الثقب الكبير اقتضى التدبير الإلهي أن يكون ثقبها في أطرافها ليكون في كل فقرة منها نصف الثقبو ويكون في طرفه لا في وسطه فإن النخاع وما أحاط به من الأغشية محتاجة إلى الغذاء فجعل في كل فقرة ثقبان يمينا ويسارا يخرج عن كل واحدة شعبة من العصب ويدخل فيه وريد وشريان، فيفيد كل ثقبة ثلاثة منافع، وفي جوف العنق المريء لازدراد الطعام والشراب، وقصبة الرئة لينفذ الهواء إلى الرئة، وجعل لقصبة الرئة غطاء ينطبق عليها وقت ازدياد الطعام والشراب؛ لئلا يقع في مجرى النفس شيء وهو آلة الصوت أيضا.
(١) لم يخلق الله ﵎ شيئا عبثا ولكن كل شيء خلقه ﵎ له من الفائدة ما لا يمكن الاستغناء عنها.