للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[فصل: في انقلاب هذه العناصر بعضها إلى بعض]

أما الهواء فينقلب (١) ماء كما يشاهد في القطرات المجتمعة على سطح الإناء المنخذ من الصفر، فإنك إذا تركت فيه ماء يرى على أطراف الإناء قطرات من الماء، ومعلوم أن ذلك ليس من ترشح الإناء، بل سببها أن الهواء المحيط بالكون يصير باردا بسبب برودة الجمد، فيصير ماء ويقع على أطراف الإناء، والماء أيضا ينقلب هواء كما يشاهد من البخارات الصاعدة من حرارة الشمس (٢) أو النار، والهواء ينقلب نارا كما يشاهد من السموم في بعض المواضع عند شدة الحر وكما نرى من كير الحدادين إذا بالغوا في نفخه فإن هواءه يصير بحيث إذا دنا منه شيء يحترق، والماء ينقلب أرضا كما نرى من بعض المياه أنها تصير حجرا، والأرض تنقلب ماء كما يفعله أصحاب الإكسير بسحق أجزائها، وخلط بعض الأدوية بها حتى تصير كلها ماء، ولا يبقى فيها أجزاء الأرضية، والله تعالى هو الموفق للصواب.

(النظر الأول: في كرة النار) النار جرم بسيط طباعه أن يكون حارّا يابسا مكانه تحت كرة الفلك لا لون لها. زعموا أن النار الصرف لا يدركها البصر؛ لأنا نرى الشمع إذا اشتعل كانت شعلته منفصلة، عن الفتيلة، ولا شك أن الحرارة عند اتصال الفتيلة أقوى، وأيضا إن كير الحدادين إذا بالغوا في نفخه صار هواء، بحيث إذا دنا منه شيء يحترق ولا ضوء له، فعلم أن النار القوية الصرف لا لون لها، والنار هي فوق العناصر في غاية القوة والخواص، فلذلك لا تدركه الأبصار، انظر إلى حكمة الباري كيف جعل كرة الأثير دون فلك القمر كيما تحترق بحرارتها الأدخنة الغليظة الصاعدة، وتلطف البخارات العفنة ليكون الجو أبدا شفافا، وجعلها طبقة واحدة شديدة الحرارة محيلة لكل ما وصل إليها من الأبخرة والأدخنة نارا صرفا لما ذكرنا من الحكمة (٣)، وخلقها غير ملونة إذا لو كانت مضيئة كالنار التي عندنا لمنعت الإبصار عن رؤية عالم


(١) وذلك غير مستغرب في العالم الحديث، فإن هناك ظاهرة التكثيف وهي تحول بخار الماء الموجود في الهواء إلى قطرات ماء.
(٢) وهذه الظاهرة أيضا طبيعية وتسمى ظاهرة التسامي أو التبخر.
(٣) فتأمل حكمة البارئ في التدبير في خلق النار على ما هي عليه فإنه لم يكن يصلح أن تكون بمثوثة كالنسيم والماء إذن كانت تحرق العالم بما فيه ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين لعنايتها في كثير من المصالح فجعلت كالمخزونة في الأجسام الحافظة لها تستبعث عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ثم تخبوا فلا هي تمسك أبدا بالمادة والحطب فتعظم المؤنة في ذلك وهي تظهر مبثوثة في العالم فتحرق كل ما هي عليه بل هي على هيئة وتقدير اجتمع فيه الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها، ثم ففي النار خلة

<<  <   >  >>