للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سحابا رقيقا وإن كان البرد مفرطا أجمده البخار في الغيم وكان ذلك ثلجا؛ لأن البرد يجمد الأجزاء المائية ويختلط بالأجزاء الهوائية، وينزل برفق فلذلك لا يكون له في الأرض وقع شديد كما للمطر والبرد، فإن كان الهواء دفيئا وارتفع البخار في الغيوم وتراكمت منه السحب طبقات بعضها فوق بعض كما ترى في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف (١) فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق غلظ البخار وصارت ماء وانضمت أجزاؤها فصارت قطرا عرض لها الثقل فأخذت تهوى من أعلى السحب وتلتئم القطرات الصغار بعضها إلى بعض، حتى إذا خرجت من أسلفها صارت قطرا كبارا فإن عرض لها برد مفرط في طريقها جمدت وصارت بردا قبل أن تبلغ الأرض، وإن لم تبلغ الأبخرة إلى الهواء البارد فإن كانت كثيرة صارت ضبابا، وإن كانت قليلة وتكاثفت ببرد الليل ولم تجمد نزلت طلا وإن انجمدت نزلت صقيعا، والله أعلم.

واعلم أن من لطف الباري ﷿ أن أنزل المطر في كل سنة مقدارا معلوما عنده إلى مستقر الحيوان لا إلى القفار البلاقع (٢) التي لا حيوان بها فإن أهل التجربة زعموا أن كل بقعة بينها وبين البحر لا يكون أكثر من مسيرة أربعين يوما فإنها لا تصلح لمسكن الحيوان؛ لأن المطر لا ينزل بها، ثم من تمام لطفه ﷿ أن أنزل القدر الذي يكون كافيا لا قاصرا، فلا ينبت شيئا ولا زائدا على الحاجة فيعفن النبات ويفسده ويضر بالحيوان، كما فعل بقوم نوح وإلى هذا المعنى أشار جلت قدرته بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ﴾ [المؤمنون: ١٨]، ثم إنزاله قطرات صغيرة فلو صبه صبّا خدش الأرض وأتلف الزرع، فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأوضح برهانه، والله الموفق.

[فصل: في الرياح]

زعموا أن حدوث الرياح من تموج الهواء وتحركه إلى الجهات، كما أن تموج البحر هو تدافع الماء بعضه لبعض إلى الجهات، فإن الهواء والماء بحران واقعان غير أن أجزاء الماء ثقيلة الحركة وأجزاء الهواء خفيفة الحركة، وأما كيفية حدوثها فإن الأدخنة التي تصعد من الأرض من تأثير الشمس وغيرها إذا وصلت إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها وإما أن تبقى على حرارتها، فإن انكسر حرها تكاتفت وقصدت النزول فيموج بها الهواء فيحدث الريح، وإن بقيت على حرارتها تصاعدت إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك فتردها الحركة الدورية إلى أسفل، فيموج


(١) قطن مندوف: أي: قطن منقوش يقال: ندف القطن ندفا أي: نفشه بالمندف ليرق فهو مندوف ونديف.
(٢) البلقع: أي: الخالي من كل شيء (ج) بلاقع.

<<  <   >  >>