حكيم في بلد أو قرية، وقد ابتلى بعشق امرأة رعناء فاجرة سيئة الخلق وهي في أكثر الأوقات تطالبه بالمأكول الطيب والمشروب اللذيذ والثياب الفاخرة والمسكن المزخرف والشهوات المردية، وإن ذلك الحكيم من شدة محنته بعظم محبتها وعظم بلائه بصحبتها، قد صرف كل همته إلى إصراف أمرها وأكثر عنايته إلى إصلاح شأنها، وقد نسى أمر نفسه وإصلاح شأنه وبلدته وأقاربه الذين نشأ فيهم، ونعمته التي كان فيها ولا راحة لهذا الحكيم إلا بمفارقة هذه المرأة والتسلي عن حبها، ولكنه إن سمع هذا الحديث تنشق مرارته من خوف مفارقتها. ولا يخفى أن النفوس جواهر روحانية لا حاجة لها إلى الأكل والشرب واللباس والنكاح، فإن كل ذلك مما يحتاج إليه البدن في قوام وجوده، والنفس مادامت مع هذا البدن تكثر همومه لإصلاح هذا البدن، ولا راحة للنفس دون مفارقته كما قلنا: إن الحكيم المبتلى بحب المومسة لا راحة له إلا بمفارقتها والسلو عنها، والله المستعان، وعليه التوكل.
[فصل: في نفوس عجيبة التأثيرات]
ذهب أهل الحق إلى أن النفوس مختلفة بحسب جواهرها فمنها نفوس علوانية نورانية لها شعور بعالم الأرواح فتستفيد بالفيض من عالم الأرواح أمورا عجيبة، ومنها نفوس كثيفة كدرة مشغوفة بالجسمانية لاحظ لها من عالم الأرواح. وذهب بعض الحكماء إلى أن النفوس الناطقة جنس تحته أنواع، وتحت كل نوع أفراد لا يخالف بعضها بعضا إلا بالعدد، وكل نوع منها كالولد لروح من الأرواح السماوية، وهذا هو الذي تسميه أصحاب الطلسمات بالطباع التام، ويزعمون أنه يتولى إصلاح تلك النفوس تارة بالمنامات وتارة بالإلهامات وتارة بالنفث في الروح، فمن النفوس الفاضلة نفوس الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإن الله تعالى لما أراد أن يجعلهم قدوة للخلق جمع في نفوسهم أنواع الفضائل، ونفى عنها أصناف الرذائل؛ لاقتداء الخلق بهم وأظهر عليها الآثار العجيبة لانقياد الخلق إليهم.
(ومنها نفوس الأولياء) فإنها لما كانت لنفوس الأنبياء مشتبهة بها صدرت عنها آثار عجيبة كما ذكرنا في مقامات الزهاد والعباد والعارفين من شفاء المرضى باستشفائهم، وسقي الأرض باستسقائهم وصرف الوباء والمؤذيات بدعائهم، وتبدل نفرة الطيور بالهدوء والوقوع وصولة السباع بالبصبصة والخضوع، وإلى غير ذلك من الأمور التي تحكي عنهم.