ومن عجيب لطف الله تعالى أن كل مأكول ومشروب يحتاج إلى تحصيل أو معالجة حتى يصلح للأكل إلا الماء، فإن الله تعالى أكثر منه، ولا حاجة إلى معالجته؛ لعموم الحاجة إليه، فإن الله تعالى كفى الخلق ومعالجة إصلاح الماء بتأثير الشمس في مياه البحر وارتفاع البخار منها.
ثم إن الرياح تسوق ذلك البخار إلى المواضع التي شاء وينزلها مطرا، ثم يجون ذلك في الأوشال والكهوف في جوف الجبال وتحت الأرض، وتخرج منها شيئا بعد شيء، وتجري الأنهار والأودية، وتظهر من القنى والآبار بقدر ما يكفي العباد لعامهم، فإذا جاء العام المقبل أتاهم مطر وهكذا مثل الدولاب يدور حتى يبلغ الكتاب أجله، فسبحانه ما أعظم شأنه!
[فصل: في صيرورة البحر في جانب الأرض]
إن من عجيب صنع الله تعالى انحسار الماء عن وجه بعض الأرض، ولولا ذلك لكان الأمر الطبيعي يقتضي أن يكون الماء لابسا جميع وجه الأرض حتى تصير الأرض في وسطه شبيه بمح البيض، والماء حولها بمنزلة البياض.
ولو كان كذلك لبطل النظام الحسي والحكمة العجيبة التي مر ذكرها من خلق الحيوان والنبات، فاقتضى التدبير الإلهي المخالفة بين مركز الأرض ومركز الشمس؛ لتدور على مركزها الخاص الذي هو غير مركز الأرض؛ ليقرب من ناحية من الأرض، ويبعد الأخرى، فصارت الناحية القريبة منها تحمي ماءها، ومن شأن الماء إذا حمي أن ينجذب إلى الجهة التي يحمى فيها بالبخار، فإذا انجذب إلى هناك انحسر عن وجه الأرض من الجانب الذي يقابله من الشق الذي تبعد عنه الشمس.
والشق الذي قربت منه الشمس هو الجنوب، والشق الذي بعدت عنه هو الشمال، فصار جانب الجنوب بحرا، وجانب الشمال يبسا؛ لتتم حكمته وينتظر أمر العالم على ما هو موجود، وما نرى من البحار مستنقعات على وجه الأرض، وسيأتي شرحها إن شاء الله تعالى.
[فصل: في أحوال عجيبة تعرض للبحار]
إن للبحار أحوالا عجيبة (١) من ارتفاع مياهها وهيجانها في أوقات مختلفة من الفصول الأربعة وأوائل الشهور وأواخرها وساعات الليل والنهار.