(النظر الثالث: في كرة الماء) الماء جرم بسيط طباعه أن يكون باردا رطبا شفافا متحركا إلى المكان الذي تحت كرة الهواء وفوق كرة الأرض، زعموا أن شكل الماء كروي؛ لأن راكب البحر إذا قرب من جبل ظهر أعلاه أولا ثم أسفله، مع أن البعد بينه وبين الأعلى أكثر مما بينه وبين الأسفل، ولو لم يكن للماء حدبة تمنع من ذلك لما رئي أعلاه قبل أسفله.
لكن استدارة كرة الماء غير صحيحة؛ لأن الباري تعالى لما أراد أن يجعل الأرض مقرّا للحيوان وحيوانات البر لابد لها من الهواء للتنفس، ومن الأرض للمقر، فخلق - جلت قدرته - الأرض ذات تضاريس خارجة من الماء بمنزلة خشونات تكون على ظاهر الكرة، وذلك لا يقدح في أن يكون شكل الماء أو شكل الأرض كرويا.
ثم إنه تعالى جعل التضاريس محلا للحيوانات البرية والوهاد للحيوانات المائية، وكل واحد من الأركان في حيزه محيط بالآخر إلا الماء، فإنه منعته العناية الإلهية عن الإحاطة بجميع جوانب الأرض؛ لما ذكرنا من الحكمة.
واعلم أن الماء عذب ومالح، وكل واحد منهما له فائدة لا توجد في الآخر، أما المالح فملوحته من الأجزاء الأرضية السبخة التي احترقت من تأثير الشمس واختلطت بالمياه وجعلتها مالحة، فلو بقيت على عذوبتها لتغيرت من تأثير الشمس وكثرة الوقوف؛ لأن من شأن الماء العذب أن ينتن من كثرة الوقوف وتأثير الشمس فيه، ولو كان كذلك لسارت الرياح بنتنها إلى أطراف الأرض؛ فأدى إلى فساد الهواء، ويسمى ذلك طاعونا، فصار ذلك سببا لهلاك الحيوان، فاقتضت الحكمة أن يكون ماء البحر مالحا؛ لدفع هذا الفساد.
ومن فوائد الماء المالح الدر والعنبر وأنواع ما يؤتى به من البحر، وسيأتي شرحها مفصلا إن شاء الله تعالى.
والمياه المالحة في الحماءة فيها شفاء للأمراض الصعبة، وماء زمزم صالح لجميع الأمراض المتفاوتة، قالوا: لو جمع جميع من داواه الأطباء لا يكون شطرا ممن عافاه الله بشرب ماء زمزم.
وأما العذب فمعظم فائدته الشرب، وفيه قوة إذا نقعت فيه مطعوما - كالزبيب مثلا - يمص جميع حلاوتها حتى لا يترك فيها شيئا من الحلاوة، وإذا خالط شيئا يأخذ طبعه ولونه فيصير عسلا وزيتا وخلاّ ولبنا ودما يقبل جميع الألوان والطعوم، ولا لون له ولا طعم.