عرفت ذلك بالطب وحده بل بالطب والفراسة فقال له كيف عرفت بالفراسة؟ قاله له إني لما دخلت دار المريض رأيت على سطح الدار سقاطات الفواكه، ثم رأيت في وجه المريض انتفاخا وفي النبض لينا وفي التفسرة غلظا وفجاجة، وعلمت أن الفاكهة إذا حضرت عند المريض لا يصبر عنها، فظهر لي من هذه الشواهد أنه تناول الفاكهة وما جزمت بها، بل قلت: لعلك أكلت، وفي اليوم الثاني: رأيت على باب الدار ريش الفروج وفي النبض امتلاء وفي الرسوب غلظ فعرفت أن الفروج لا يأكله إلا المريض غالبا فظهره بهذه الشواهد وما جزمت به بل قلت: لعلك فعلت هذا، فسمع ابنه هذا الكلام فأحب أن يسلك مسلك أبيه، فدخل على مريض وجس نبضه وشاهد تفسرته فقال له: لعلك أكلت لحم حمار فقال المريض: حاشا وكلا كيف يؤكل لحم الحمار أيها الطبيب، فخجل ابن الطبيب وخرج فانتهى ذلك إلى أبيه، فأحضره وسأله كيف عرفت أنه أكل لحم الحمار فقال: لأني رأيت في دارهم برذعة فعلمت أنها لا تكون إلا للحمار ثم قلت: لو كان الحمار حيا لكانت برذعته عليه وإذا لم يكن حيا فإنهم ذبحوه وأكلوه، فقال أبوه: لو كان شيء من هذه المقامات صحيحا، لرجوت فيك النجابة، ولكن المقدمات كلها فاسدة، وطمع النجابة فيك محال، ونعم ما قال: فلا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع.
(وحكي) أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه: كان جالسا يذكر الدروس فدخل عليه شخص ذو هيئة فلما بدأ قال لأصحابه: تثبتوا كيلا يأخذ عليكم هذا الرجل شيئا، فلما جلس وأبو حنيفة رحمة الله عليه يذكر أوقات الصلاة قال: أما الصبح فوقته من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس زال وقتها، فقال ذلك الرجل: فإن طلعت الشمس قبل الفجر كيف يكون حكمها؟ فالتفت أبو حنيفة إلى أصحابه وقال: كونوا كما شئتم فإن الأمر على خلاف ما حسبنا.
(وحكي) أن معاوية بن مروان ضاع له باز فقال أغلقوا باب المدينة كيلا يخرج.
(وحكي) أن الوزير أبا السعادات خطأ الفرس تحته فأمر بقطع قضيبه فقيل له في ذلك، فقال أعطوه، ولكن لا تعرفوه أني علمت ذلك.
[(أما القسم الثالث) وهو علم التجارب والرسوم والعادات]
فتفاوت الناس فيه ظاهر ويدل عليه حكايات: منها ما حكي أن أبا النجم العجلي دخل على هشام بن عبد الملك وأنشد أرجوزته التي أولها: الحمد لله الواهب المجزل وهي من أجود شعره أصغى إليه إلى أن انتهى إلى قوله:
والشمس في الجو كعين الأحول، فغضب هشام وكان أحول وأمر بصفعه وإخراجه.