[ثم يتصدّى النظر في الكائنات: وهي الأجسام المتولدة من الأمهات]
فنقول: الأجسام المتولدة من الأمهات، إما أن تكون نامية أو لم تكن فهي المعدنيات، وإن كانت فهي الحيوانات، زعموا أن أول ما يستحيل إليه الأركان الأبخرة والعصارات؛ فالبخار: ما يصعد من لطائف مياه البحار والآجام والأنهار من تسخين الشمس، والعصارات: ما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار ويختلط بالأجزاء الأرضية ويغلظ وتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض فتصيرها مادة للنبات والمعادن والحيوان، وإنها متصلة بعضها ببعض بترتيب عجيب ونظام بديع، تعالى صانعها عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.
فأول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة، فإن المعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء، وآخرها بالنبات، والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية، والله تعالى أعلم بالصواب.
[النظر الأول: في المعدنيات]
هي أجسام متولدة من الأبخرة والأدخنة تحت الأرض، إذا اختلطت على ضروب من الاختلاطات مختلفة في الكمّ والكيف (١)، وهي إما قوية التركيب أو ضعيفة التركيب، وقوية التركيب إما أن تكون متطرفة أو لم تكن متطرفة، وهي الأجساد السبعة؛ أعني: الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والحديد، والأسرب، والخارصين، والتي لا تكون متطرفة فقد تكون في غاية اللين كالزئبق، وقد تكون في غاية الصلابة كالياقوت، والتي تكون في غاية الصلابة قد تنحل بالرطوبات، وهي الأجسام الذهبية كالزرنيخ والكبريت.
(١) فكر في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة الألوان كمثل: الجص، والكلس، والجير، والجبصين، والزرنيخ، وغير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم ومصالحهم، وكيف اختلف طبائعها وألوانها وأحوالها؟ فمنها ما هو سم قاتل، ومنها ما ينفع من السم ويقطعه، ومنها ما يقويه ويزيل في فعله، فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض؛ ليستخرجها فيستعملها عند حاجته إليها؟ انظر: الدلائل والاعتبار (١٦).