للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتكامل زخرف الأرض، وصارت الدنيا كأنها عروس حسناء ذات جمال كثيرة العشاق ولا تزال كذلك إلى أن تبلغ الشمس آخر السنبلة فعند ذلك انتهى الصيف (١) وأقبل الخريف.

(وأما الخريف) فهو وقت نزول الشمس في أول الميزان فعند ذلك استواء الليل والنهار ومرة أخرى، ثم ابتداء الليل بالزيادة، كما ذكرنا أن الربيع زمان استواء الأشجار وربو النبات وظهور الأزهار، فبالخريف ذبول النبات وتغير الأشجار وسقوط أوراقها، فحينئذ برد الماء، وهبت الشمال وتغير الزمان، ونقصت المياه، وجفت الأنهار، وغارت العيون، ويبست أنواع النبات، وماتت الهوام، وانحجزت الحشرات، وانصرف الطير والوحش لطلب البلدان الفيئة، وادخر الناس قوت الشتاء ودخلوا البيت ولبسوا الجلود الغليظة من الثياب وتغير الهواء وصارت الدنيا كهلة تولت عن أيام الشباب، ولا تزال كذلك إلى أن تبلغ الشمس آخر القوس (٢) وقد انتهى الخريف وأقبل الشتاء.

(وأما الشتاء) فهو وقت نزول الشمس أول الجدي فعند ذلك تناهى طول الليل وقصر النهار ثم أخذ النهار في الزيادة واشتد البرد وخشن الهواء وتعرى الأشجار عن الأوراق وانحجزت الحيوانات في أطراف الأرض وكهوف الجبال من شدة البرد وكثرة الندى (٣) وأظلم الجو، وكلح وجه الزمان، وهزلت البهائم، وضعفت قوى الأبدان ومنع البرد الناس عن التصرف ومن عيش أكثر الحيوان وبرد الماء الذي هو مادة الحياة، وانقطع الذباب والبعوض، وعدمت ذوات السموم من الهوام وطاب الأكل والشرب، وهو زمان الراحة والاستماع، كما أن الصيف زمان الكد والتعب، قيل: من لم يغل دماغه في الصيف، لم يغل قدره في الشتاء.

وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة دنا موتها، فلا تزال كذلك إلى أن تبلغ الشمس آخر الحوت، وقد انتهى الشتاء وأقبل الربيع مرة أخرى، ولا يزال كذلك إلى أن يبلغ الكتاب أجله.


(١) وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء والاعتمال.
(٢) وفي الخريف يصفو الهواء فترفع الأمراض وتصح الأبدان، ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال الطويلة إليمصالح أخرى لو تقصينا ذكرها طال الكلام فيها.
(٣) وفي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات، فتتولد فيه مواد الثمار، ويتكثف الهواء فينشأ منه السحاب والمطر وتشتد أبدان الحيوان وتقوى الأفعال الطبيعية.

<<  <   >  >>